الرد على شبهات الملحدين في نشأة الكون ( دارون )
3- نظرية دارون (1)
حاول أصحاب هذه النظرية أن يعللوا بها وجود الأحياء ، وقد شاعت هذه النظرية ، وعمل كثيرون على نشرها بحسن نية ، لظنّهم أنّها حقيقة علمية ، وعمل آخرون على نشرها بسوء نية ، لأنّها وافقت أهواءهم ، فهي تكذب بالأديان التي وصفت خلق الإنسان ، وبذلك يجد الطاعنون في الدِّين دليلاً من العلم يرتكزون عليه ، ويدلِّسون على النَّاس به .
ماذا تقول هذه النظرية ؟
تزعم هذه النظرية أنّ أصل المخلوقات حيوان صغير ، نشأ من الماء ، ثم أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه ممّا أدّى إلى نشوء صفات جديدة في هذا الكائن ، أخذت هذه الصفات المكتسبة تورث في الأبناء حتى تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر ملايين السنين إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقاً أرقى ، واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والارتقاء في المخلوقات ، حتى وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالإنسان .
أساس النظرية :
1- تعتمد النظرية على أساس ما شوهد في زمن (( دارون )) من الحفريات الأرضية ، فقد وجدوا أنّ الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية ، وأنّ الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى . فقال (( دارون )) : " إنّ تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والارتقاء من الحيوانات والكائنات الأولى " .
2- وتعتمد أيضاً على ما كان معروفاً في زمن (( دارون )) من تشابه جميع أجنّة الحيوانات في أدوارها الأولى ، فهو يوحي بأنّ أصل الكائنات واحد ، كما أنّ الجنين واحد ، وحدث التطور على الأرض كما يحدث في أرحام الكائنات الحيّة .
3- كما تعتمد النظرية على وجود الزائدة الدودية في الإنسان التي هي المساعد في هضم النباتات ، وليس لها الآن عمل في الإنسان مما يوحي بأنّها أثر بقي من القرود لم يتطور ؛ لأنها تقوم بدورها في حياة القرود .
شرح (( دارون )) لعملية التطور وكيف تمّت :
1- الانتخاب الطبيعي : تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة ، والإبقاء على الكائنات القوية ، وذلك ما يسمّى بزعمهم بقانون (( البقاء للأصلح )) ، فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته ، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن ، وذلك هو (( النشوء )) الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى ، وهكذا يستمر التطور ، وذلك هو الارتقاء .
2- الانتخاب الجنسي : وذلك بوساطة ميل الذكر والأنثى إلى التزوج بالأقوى والأصلح ، فتورث بهذا صفات الأصلح ، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره .
3- كلما تكونت صفة جديدة ، ورثت في النسل .
تفنيد الأساس الذي قامت عليه النظرية :
علم الحفريات لا يزال ناقصاً ، فلا يدّعي أحد أنّه قد كمل التنقيب في جميع طبقات الأرض وتحت الجبال والبحار ، فلم يجد شيئاً جديداً ينقض المقررات السابقة .
وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإنّ وجود الكائنات الأولى البدائية أولاً ، ثم الأرقى ليس دليلاً على تطور الكائنات الراقية من الكائنات الأدنى ، بل هو دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملاءمة البيئة لوجودها على أي صورة كان هذا الوجود ، وإذا كانت الحفريات في زمن (( دارون )) تقول : إنّ أقدم عمر للإنسان هو ستمائة ألف سنة ، فإنّ الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات قد قدّرت أنّ عمر الإنسان يصل إلى عشرة ملايين من السنين .
أليس هذا أكبر دليل على أنّ علم الحفريات متغيّر لا يبنى عليه دليل قطعيّ ، وأنّه قد ينكشف في الغد من الحقائق عكس ما كنّا نؤمل ؟
ولقد كتب الدكتور مصطفى شاكر سليم تعليقاً على كتاب (( الإنسان في المرآة )) للمؤلف ( كلايد كلوكهون ) حول إنسان ( يناندرتال ) الذي يزعم أنصار نظرية (دارون) أنّه أوّل إنسان تطور من القرود أو الغوريلا . فقال الدكتور مصطفى : ويتصف ( إنسان يناندرتال ) بالصفات الطبيعية الرئيسة الآتية : مخ أكبر حجماً من مخ الإنسان المعاصر ، وجمجمة كبيرة عريضة . إلى أن قال : إلى جانب أنّ السلسلة التي تغطيها الحفريات مقطعة غير متصلة بما يسمى ( الحلقات المفقودة ) .
يقول الدكتور ( سوريال ) في كتابه (( تصدّع مذهب دارون )) :
1- إنّ الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء ، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب ، فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الوحيدة والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة ، ولا بين الحيوانات الرخوية وبين الحيوانات المفصلية ، ولا بين الحيوانات اللافقرية وبين الأسماك والحيوانات البرمائية ، ولا بين الأخير وبين الزحافات والطيور ، ولا بين الزواحف وبين الحيوانات الآدمية ، وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية .
2- تشابه أجنة الحيوانات : ذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء ، نتيجة لعدم تقدم الآلات المكبّرة التي تبين التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب ، إلى جانب التزييف الذي قام به واضع صور الأجنّة المتشابهة العالم الألماني ( أرنست هيكل ) فإنّه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له أنّه اضطرّ إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المئة من صور الأجنّة لنقص الرسم المنقول .
3- أما وجود الزائدة الدودية في الإنسان كعضو أثري للتطور القردي فليس دليلاً قاطعاً على تطور الإنسان من القرد ، بل يكون سبب وجودها هو وراثتها من الإنسان الجدّ الذي كان اعتماده على النباتات ، فخلقت لمساعدته في هضم تلك النباتات ، كما أنّ العلم قد يكشف أنّ لها حقيقة لا تزال غائبة عنّا حتى اليوم .
فالعلم كل يوم إلى ازدياد ، وإذا كانت الخنوثة من صفات الكائنات الأولية الدنيا ، والزوجية من خصائص الكائنات الراقية ، فإنّ الثدي من أمارات الأنوثة ، ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان ، في حين ذكور ذوات الحافر كالحصان والحمار لا ثدي لها إلا ما يشبه أمهاتها . فكيف بقي أثر الخنوثة في الإنسان ، ولم يبق فيما هو أدنى منه ؟ مع أنّ ( دارون ) يزعم أنّ الإنسان تطوّر مما هو أدنى منه .
تفنيد شرح دارون لعملية التطور :
1- يقول ((دارون)) : إنّ هناك ناموساً أو قانوناً يعمل على إفناء الكائنات الحية ، فلا يبقى إلا الأصلح الذي يورث صفاته لأبنائه ، فتتراكم الصفات القوية حتى تكون حيواناً جديداً ، حقاً هناك نظام وناموس وقانون يعمل على إهلاك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها ، لأنّ الله قدّر الموت على كلّ حي ؛ إلا أنّ نظاماً وناموساً يعمل بمقابلة هذا النظام ، ذلك هو قانون التكافل على الحياة بين البيئة والكائن ، لأنّ الله قدّر الحياة فهيّأ أسبابها ، فنجد الشمس والبحار والرياح والأمطار والنباتات والجاذبية ، كلّ هذه وغيرها تتعاون للإبقاء على حياة الإنسان وغيره من الحيوانات .
فالنَّظر إلى عوامل الفناء وغض النظر عن عوامل البقاء يُحدث خللاً في التفكير ، فإذا كان هناك سنة للهلاك ، فهناك سنة للحياة ، ولكلٍ دورٌ في الحياة ، وإذا كانت الظروف الطبيعية : من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعه كطمس عين أو تهديهم بناء ، فإنّه من غير المعقول أن تقدر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة والبليدة أن تنشئ عيناً ، لمن لا يملك عيناً ، أو تصلح بناء فيه نقص .
إنَّ العقل يقبل أن تكون الظروف الطبيعية صالحة لإحداث الخراب والهلاك ، لكنَّه من غير المعقول أن تكون هذه الظروف صالحة لتفسير الخلق البديع والتصوير والتكوين المنظم المتقن ، إن أي عضو من أعضاء الكائنات الحية قد رُسم بإتقان ، وكوّن بنظام ، ورتبت أجزاؤه بحكمة بالغة محيّرة ، ونسق عمله مع غيره في غاية الإبداع ، ومن المحال أن ينسب ذلك الإتقان والنظام البديع إلى خبط الظروف الطبيعية العشواء .
قال (( جمال الدين الأفغاني )) في كتابه (( الردّ على الدهريين )) بعد نقاش لهذه النظرية : وبعد ذلك فإني سائلهم كيف اطلع كلّ جزء من أجزاء المادة مع انفصالها على مقاصد سائر الأجزاء ؟ وبأية آلة أفهم كلّ جزء منها بقية الأجزاء بما ينويه من مطلبه ؟ وأي ( برلمان أو سينات ) – مجلس الشيوخ – عقدت لإبداع هذه المكونات العالمية التركيب البديعة التأليف ؟ وأنّى لهذه الأجزاء أن تعلم – وهي في بيضة العصفور – ضرورة ظهورها في هيئة الطير يأكل الحبوب ، فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته ؟ .
إنّ هذا المبدأ الذي أطلقه (دارون) (البقاء للأصلح) قد دمّر الحياة البشرية ، لأنّه أعطى المسوغ لكلّ ظالم فرداً كان أو حكومة ، لأنّ الظالم وهو يمارس غصبه وظلمه وحربه ومكره لا يمارس رذائل خلقية ، إنّما هو يمارس قانوناً من قوانين الفطرة كما زعم ( دارون ) ، إنه يمارس قانون ( البقاء للأصلح ) ، وذلك الزعم هو الذي أعطى حركة الاستعمار كلّ بشاعتها .
2- أمّا الانتخاب الطبيعي الذي يكون به الميل في التناسل بين الأفراد القويّة مما سبب اندثار الأفراد الضعاف ، وبقاء الأقوى ، فليس ذلك دليلاً على حدوث تطور في النوع ، بل يفهم منه بقاء النوع القوي من النوع نفسه واندثار النوع الضعيف .
أمَّا إذا قيل : إنَّ تطوراً يحدث على كائن ما فإنَّه يحدث فيه فتوراً جنسياً ؛ لأنّ الألفة بين الذكور والإناث تنقص بقدر التباعد والاختلاف بينهما في الشكل . ذلك ما يقوله (دوير زانسكي) أشهر المختصين بالجيولوجية النوعية عام 1958م بعد قرن من (دارون) ، فمن قوله في هذا : " المخالفة في الشكل تضعف الميل التناسلي منه ، فالميل إلى التناسل يضعف بين الأشكال والأنواع المختلفة بقدر ذلك الاختلاف . وليس صحيحاً أنّ الصفات المحسنة في فرد من الأفراد تنقل بوساطة الوراثة .
فمثلاً هذا الحداد القويّ العضلات لا تنتقل قوة عضلاته إلى ذريته ، كما أنّ العالم الغزيز العلم لا ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه " .
3- أما القول بحدوث نشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ، ثم توريثها في النسل ، فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث . فكلّ صفة لا تكمن في الناسلة ، ولا تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة ، لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة .
يقول الأستاذ ( نبيل جورج ) أحد ثقات هذا العلم : " إنّ الانتخاب الطبيعي لأجل هذا لا يصلح لتعليل مذهب النشوء ، أو مذهب التطور ؛ لأنّه يعلل زوال غير الصالح ونشأة المزايا الموروثة بين الأفراد ، والقائلون بالطفرة يقصدون أنّ الحيوان الذي لم يكن له عين تتكون له العين فجأة بوساطة بعض الأشعة .
فقد ثبت لدى المختصين أنّ الأشعة السينية تغيّر العدد في الناسلات ، لكنّ أثر الأشعة تغيير لما هو موجود ، لا إنشاء ما ليس له وجود ، فعدد ناسلات القرد غير عدد ناسلات الإنسان ، والأشعة لا تؤثر إلا في الناسلات الموجودة فضلاً من أن تحدث هذه الأشعة التي لا عقل لها ولا إدراك عقلاً للإنسان يتميز به عن القرد وغيره من سائر الحيوانات .
إنّ الأشعة تؤثر في الناسلات تأثيراً أقرب إلى التشويه منه إلى الإصلاح كما يحدث من الأشعة الذريّة . وإلى جانب مخالفة علم الوراثة ( لنظرية دارون ) فإنّ التجربة تنقضه ، فها هم اليهود والمسلمون من بعدهم يختنون أبناءهم ، ولكن ذلك كله لم يسبب أن وُلد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين ، وهكذا فكلما تقدم العلم أثبت بطلان نظرية (دارون).
النظرية لا يؤيدها الواقع المشاهد :
1- لو كانت النظرية حقا لشاهدنا كثيراً من الحيوانات والإنسان تأتي إلى الوجود عن طريق التطور ، لا عن طريق التناسل فقط . وإذا كان التطور يحتاج إلى زمن طويل فذلك لا يمنع من مشاهدة قرود تتحول إلى آدميين في صورة دفعات متوالية .
2- لو سلمنا أنّ الظروف الطبيعية والانتخاب الطبيعي ؛ قد طورت قرداً إلى رجل – مثلاً – فإنّا لن نسلم أبداً بأن هذه الظروف قد قرّرت أيضاً أن تكون امرأة لذلك الرجل ، ليستمرا في التناسل والبقاء مع الموازنة بينهما .
3- إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات كالحرباء التي تتلون بحسب المكان ، هي مقدرة كائنة في تكون المخلوقات ، تولد معها ، وهي عند بعضها وافرة ، وعند بعضها الآخر تكاد تكون معدومة ،وهي عند جميع المخلوقات محدودة لا تتجاوز حدودها ، فالقدرة على التكيف صفة كامنة ، لا صفة متطورة تكونها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية ، وإلا كانت البيئة فرضت التكيف على الأحجار والأتربة وغيرها من الجمادات .
4- تمتاز الضفادع على الإنسان بمقدرة على الحياة في البر والماء ، كما تمتاز الطيور عليه بمقدرة الطيران والانتقال السريع وذلك بدون آلة ، كما أن أنف الكلب أشدّ حساسية من أنف الإنسان ، فهل أنف الكلب أكثر رقياً من أنف الإنسان ؟
وهل الضفادع والطيور أرقى من الإنسان في بعض الجوانب ؟
كما أنَّ عين الجمل أو الحصان أو الحمار ترى في النهار وفي المساء على السواء ، في حين تعجز عين الإنسان عن الرؤية في الظلام ، كما أن عين الصقر أشدّ حدة من عين الإنسان . فهل الصقر أو الحمار أرقى من الإنسان ؟ وإذا أخذنا الاكتفاء الذاتي أساساً للرقي كما هو بالنسبة لحال الدول فإنّ النبات يفوق الإنسان وجميع الحيوانات ، لأنّه يصنع طعامه وطعام غيره دون أن يحتاج لغذاء من غيره .
وإذا أخذنا الضخامة أساساً للرقي ، عندئذ يجب أن يكون الجمل والفيل وحيوانات ما قبل التاريخ الضخمة أرقى من الإنسان .
موقف علماء الطبيعة من النظرية :
1- المؤيدون للنظرية وتأييدهم كان أكثره انتصاراً لحرية الفكر الذي كانت الكنيسة تحاربه وتقاومه ، فقد شن علماء الطبيعة حرباً ضد قسس الكنيسة وأفكارهم بعد أن نشبت حرب طاحنة بين الفريقين .
2- المعارضون ، وهم المطالبون بدليل محسوس على فعل ( الانتخاب الطبيعي ) في تحويل الأنواع ، ولا سيما نوع الإنسان ، فالمعترضون عليه طلباً للأدلة الطبيعية لا يقلون عدداً أو اعتراضاً عن المعترضين اللاهوتيين في أوربا .
وهذه بعض آراء العلماء المعارضين كما نقلها الأستاذ إبراهيم حوراني : " إنّ العلماء لم يثبتوا مذهب ((دارون)) بل نفوه ، وطعنوا فيه ، مع علمهم أنّه بحث فيه عشرين سنة " . ومنهم العلامة ((نشل)) ، والعلامة ((دلاس)) قال ما خلاصته : " إنّ الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان ، ولا بد من القول بخلقه رأساً " .
ومنهم ((فرخو)) قال : " إنّه يتبين لنا من الواقع أن بين الإنسان والقرد فرقاً بعيداً ، فلا يمكننا أن نحكـم بأنّ الإنسان سلالة قرد أو غيره من البهائم ، ولا يحسن أن نتفوّه بذلك " .
ومنهم ((ميفرت)) قال بعد أن نظر في حقائق كثيرة من الأحياء : " إنّ مذهب ((دارون)) لا يمكن تأييده ، وإنّه من آراء الصبيان " .
ومنهم العلامة ((فون بسكون)) قال بعد أن درس هو و ((فرخو)) تشريح المقابلة بين الإنسان والقرد : " إنّ الفرق بين الاثنين أصلي وبعيد جداً ... " .
ومنهم العلامة ((أغاسيز)) قال في رسالة في أصل الإنسان تليت في ندوة العلم الفيكتورية ، ما خلاصته : إنّ مذهب (دارون) خطأ على باطل في الواقع ، وأسلوبه ليس من العلم في شيء ، ولا طائل تحته .
ومنهم العلامة ((هكسلي)) وهو من (اللاأدرية) وصديق (لدارون) قال : إنَّه بموجب ما لنا من البينات لم يثبت قط أن نوعاً من النبات أو الحيوان نشأ بالانتخاب الطبيعي أو الانتخاب الصناعي .
ومنهم العلامة ((تندل)) وهو مثل ((هيكل)) قال : " إنّه لا ريب في أنّ الذين يعتقدون بالارتقاء يجهلون أنّه نتيجة مقدمات لم يعلم بها ، ومن المحقق عندي أنه لا بدّ من تغيير مذهب (دارون) " .
نظرية لا حقيقة :
لذلك كله فقد أطلق على ما قاله (دارون) بشأن التطور (نظرية التطور) ، وهناك فرق كبير لدى العلماء بين النظرية والحقيقة أو القانون . فالنظرية في اصطلاحهم هي ما تحتمل التصديق والتكذيب ، أما الحقيقة أو القانون فلا يحتمل وجهاً من أوجه الباطل .
لماذا انتشرت إذن؟
سبب انتشار هذه النظرية هو مَجيئُها في وقت أذن الله فيه أن يظهر باطل ذلك الدّين المحرف المغير ( النصرانية ) على أيدي جماعة من أبنائه ، فكان لتقدم العلوم أثر كبير في كشف زيف ذلك الدين ، مما أدّى إلى نشوب معركة ضارية ذهب ضحيتها آلاف من علماء الطبيعة ، وفي المعترك الحامي أخذ كل فريق في استخدام كل سلاح ضد خصمه ، فانتشرت هذه النظرية سلاحاً أشهره علماء الطبيعة في وجه دينهم ، ثمّ في وجه كلّ دين وطئت أقدامهم المستعمرة أرضه ؛ لاعتقادهم بصدق هذه النظرية ، وانتقاماً من ذلك الدّين الباطل الذي وقف حجر عثرة أمام البحث في ميادين العلوم الطبيعية ، ثم وسيلة لتحطيم أديان الأمم المستعمرة حتى يسهل على المستعمرين السيطرة على هذه الشعوب .
وهكذا فرض التعليم الاستعماري هذه النظرية بعد أن حطم دينها في مناهج الدراسة ، وقدمها في ثوب ( علمي ) حتى يستطيع أن يقنع الطلاب بصدق هذه النظرية ليقرر ما ألقي في أذهان الطلاب من خلاف بين العلم الذي زيفوه والدّين ، فيكفر الناس بدينهم .
ويكفي أن يعرف القارئ أنّه بوساطة هذه النظرية انحرف كثير من أبناء الإسلام عن دينهم ، ولذلك فقد حرص الاستعمار على تعليم هذه النظرية لأبناء المسلمين في مدارسنا في الوقت الذي يحرّم فيه القانون الأمريكي تعليـم هذه النظرية في المدارس منذ سنة 1935م .
ولكن أوربا بعد أن قضت على دينها المحرف عادت لتعلن أنّ نظرية (دارون) التي استخدمتها في المعركة لدعم موقفها ليست حقيقة علمية ، وإنما هي نظرية كلما تقدمت العلوم كشفت عن باطلها .
القرآن ونظرية دارون :
حين يتكلم القرآن في الحقائق الأزلية فعلى الناس أن يصغوا وينصتوا ( وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) [ الأعراف : 204 ] ، لأنه من العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علماً ، وما علم الإنسان ! إنّه لا شيء بجانب علم الله ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ البقرة : 216 ] .
وكيف لا يعلم أمر خلقه وهو الذي خلقهم ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [ الملك : 14 ] .
وكيف يسمح النّاس لأنفسهم أن يتحدثوا عن أصلهم البعيد وهم لم يشهدوا ذلك الخلق ( مَّا أشهدتُّهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) [ الكهف : 51 ] .
وما داموا لم يشهدوا ، فإنّ صوابهم في هذا المجال قليل ، وخطؤهم كثير .
عكس هذه النظرية هو الصواب :
الذي يقرره العليم الخبير خالق الإنسان مخالف تماماً لما قرره هؤلاء الجاهلون ، فالله يخبرنا أنّه خلق الإنسان خلقاً مستقلاً مكتملاً ، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده ( وإذ قال ربك للملائِكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً ) [ البقرة : 30 ] .
وحدثنا عن المادة التي خلقه منها ، فقد خلقه من تراب ( فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ) [الحج : 5] .
وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزْنُ ، والخَبِيثُ والطيبُ ) . (2)
والماء عنصر في خلق الإنسان ( والله خلق كل دابةٍ من مَّاءٍ ) [ النور : 45 ] ، فهو من ماء وتراب : ( هو الذي خلقكم من طينٍ ) [ الأنعام : 2 ] .
هذا الطين تحوّل إلى صلصال كالفخار ( خلق الإنسان من صلصالٍ كالفخَّار ) [الرحمن : 14] .
وقد خلقه الله بيديه ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) [ص:75] .
وقد خلقه مجوّفاً منذ البداية ، ففي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لما صوَّر الله آدم في الجنَّة تركه ما شاء الله أن يتركه ، فجعل إبليسُ يطيفُ به ينظر ، فلمّا رآهُ أجوف عرف أنّه خُلق خلقاً لا يتمالك ) . (3)
هذا الطين نفخ الله فيه من روحه ، فدّبت فيه الحياة ، فأصبح سميعاً بصيراً متكلماً عاقلاً واعياً ، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم حين ينفخ فيه الروح ، وتدبّ فيه الحياة ( فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) [ ص : 72 ] .
وأخبرنا الله بالمكان الذي أسكنه فيه بعد خلقه ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) [ البقرة : 35 ] .
وبمجرد أن تمّ خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يقال له ، ففي القرآن ( وعلم آدم الأسماء كلها ثمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين – قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم – قال يا آدم أنبئهم بأسمائِهم ) [ البقرة : 31-33 ] .
وفي حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس ، فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذنه ، فقال له ربه : يرحمك الله يا آدم ، اذهب إلى أولئك الملائكة – إلى ملأٍ منهم جلوسٌ فَقُل : السلام عليكم . قالوا : عليك السلام ورحمة الله .. ) . (4)
هذا الإنسان الأول هو آدم وهو أبو الناس كافة ، وخلق الله من آدم زوجه حواء ، ( يا أيُّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها )[النساء:1] .
ولم يكن خلق الإنسان ناقصاً ثم اكتمل ، كما يقول أصحاب نظرية التطوّر ؛ بل كان كاملاً ، ثمّ أخذ يتناقص الخلق ، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : ( خلق الله آدم وطولُهُ : سِتّون ذراعاً ) . (5)
ولذلك فالمؤمنون يدخلـون الجنّة مكتملين على صورة آدم ، ففي بقية الحديث السابق : ( فكلّ من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً ) ، ثم يقول صلى الله عليه وسلم : ( فلم يزل الخلق ينقُصُ بعده حتّى الآن ) . (6)
وقد أخبرنا الحق أنه مسخ بعض الضالين من البشر قردة وخنازير ، فالمستوى الراقي من الخلق يمكن أن ينحدر إلى المستوى الأدنى ، أمّا أن تُحوّل القرود والخنازير بشراً فهذا لا يوجد إلا عند أصحاب العقول الضعيفة .
هذه لمحة مما حكاه القرآن وأخبرت به الأحاديث عن خلق الإنسان الأول ، لم نستقص النصوص من الكتاب والسنّة في ذلك ، وإلا فالقول في ذلك أوسع وطويل ، وهو يعطي صورة واضحة لأصل الإنسان ليس فيها غبش ولا خيال ، وهذا الذي يبيّنه الإسلام أصل كريم يعتز الإنسان بالانتساب إليه ، أمّا ذلك الإنسان الذي يصوّره أصحاب نظرية التطور ، ذلك القرد الذي ترقى عن فأر أو صرصور فإنّه أصل يخجل الإنسان من الانتساب إليه .
وذلك الإنسان الذي يُدَرّسه علماء التاريخ للأطفال : الإنسان المتوحش الذي لا يفقه الكلام ، ولا يحسن صنع شيء ، الذي يتعلم من الحيوان ... فيه الكثير من التجني على أصل الإنسان الكريم .
وبعد :
فقد آن أن نفيق وأن نعود إلى ديننا الذي جاء به كتاب ربنا ، ففيه الخير ( فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله ... ) .
آن لنا أن نِعفّ عن نتاج العقول الآسنة المتعفنة في مثل هذه المجالات ، أعني المجالات التي قال الله فيها كلمة الفصل ، ولم يترك لأحد فيها قولاً .
يجب أن تتوقف هذه الهزيمة الفكرية التي تجعلنا نسارع إلى قبول كل جديد بدون رويّة وتفكر ، ثم لا نفيق على خطأ ما أخذناه إلا بعد أن يهدمه بناتُه
3- نظرية دارون (1)
حاول أصحاب هذه النظرية أن يعللوا بها وجود الأحياء ، وقد شاعت هذه النظرية ، وعمل كثيرون على نشرها بحسن نية ، لظنّهم أنّها حقيقة علمية ، وعمل آخرون على نشرها بسوء نية ، لأنّها وافقت أهواءهم ، فهي تكذب بالأديان التي وصفت خلق الإنسان ، وبذلك يجد الطاعنون في الدِّين دليلاً من العلم يرتكزون عليه ، ويدلِّسون على النَّاس به .
ماذا تقول هذه النظرية ؟
تزعم هذه النظرية أنّ أصل المخلوقات حيوان صغير ، نشأ من الماء ، ثم أخذت البيئة تفرض عليه من التغييرات في تكوينه ممّا أدّى إلى نشوء صفات جديدة في هذا الكائن ، أخذت هذه الصفات المكتسبة تورث في الأبناء حتى تحولت مجموع هذه الصفات الصغيرة الناشئة من البيئة عبر ملايين السنين إلى نشوء صفات كثيرة راقية جعلت ذلك المخلوق البدائي مخلوقاً أرقى ، واستمر ذلك النشوء للصفات بفعل البيئة والارتقاء في المخلوقات ، حتى وصل إلى هذه المخلوقات التي انتهت بالإنسان .
أساس النظرية :
1- تعتمد النظرية على أساس ما شوهد في زمن (( دارون )) من الحفريات الأرضية ، فقد وجدوا أنّ الطبقات القديمة تحتوي على كائنات أولية ، وأنّ الطبقات التي تليها تحتوي على كائنات أرقى فأرقى . فقال (( دارون )) : " إنّ تلك الحيوانات الراقية قد جاءت نتيجة للنشوء والارتقاء من الحيوانات والكائنات الأولى " .
2- وتعتمد أيضاً على ما كان معروفاً في زمن (( دارون )) من تشابه جميع أجنّة الحيوانات في أدوارها الأولى ، فهو يوحي بأنّ أصل الكائنات واحد ، كما أنّ الجنين واحد ، وحدث التطور على الأرض كما يحدث في أرحام الكائنات الحيّة .
3- كما تعتمد النظرية على وجود الزائدة الدودية في الإنسان التي هي المساعد في هضم النباتات ، وليس لها الآن عمل في الإنسان مما يوحي بأنّها أثر بقي من القرود لم يتطور ؛ لأنها تقوم بدورها في حياة القرود .
شرح (( دارون )) لعملية التطور وكيف تمّت :
1- الانتخاب الطبيعي : تقوم عوامل الفناء بإهلاك الكائنات الضعيفة الهزيلة ، والإبقاء على الكائنات القوية ، وذلك ما يسمّى بزعمهم بقانون (( البقاء للأصلح )) ، فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته ، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن ، وذلك هو (( النشوء )) الذي يجعل الكائن يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى ، وهكذا يستمر التطور ، وذلك هو الارتقاء .
2- الانتخاب الجنسي : وذلك بوساطة ميل الذكر والأنثى إلى التزوج بالأقوى والأصلح ، فتورث بهذا صفات الأصلح ، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره .
3- كلما تكونت صفة جديدة ، ورثت في النسل .
تفنيد الأساس الذي قامت عليه النظرية :
علم الحفريات لا يزال ناقصاً ، فلا يدّعي أحد أنّه قد كمل التنقيب في جميع طبقات الأرض وتحت الجبال والبحار ، فلم يجد شيئاً جديداً ينقض المقررات السابقة .
وعلى فرض ثبات مقررات هذا العلم فإنّ وجود الكائنات الأولى البدائية أولاً ، ثم الأرقى ليس دليلاً على تطور الكائنات الراقية من الكائنات الأدنى ، بل هو دليل على ترتيب وجود هذه الكائنات فقط عند ملاءمة البيئة لوجودها على أي صورة كان هذا الوجود ، وإذا كانت الحفريات في زمن (( دارون )) تقول : إنّ أقدم عمر للإنسان هو ستمائة ألف سنة ، فإنّ الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات قد قدّرت أنّ عمر الإنسان يصل إلى عشرة ملايين من السنين .
أليس هذا أكبر دليل على أنّ علم الحفريات متغيّر لا يبنى عليه دليل قطعيّ ، وأنّه قد ينكشف في الغد من الحقائق عكس ما كنّا نؤمل ؟
ولقد كتب الدكتور مصطفى شاكر سليم تعليقاً على كتاب (( الإنسان في المرآة )) للمؤلف ( كلايد كلوكهون ) حول إنسان ( يناندرتال ) الذي يزعم أنصار نظرية (دارون) أنّه أوّل إنسان تطور من القرود أو الغوريلا . فقال الدكتور مصطفى : ويتصف ( إنسان يناندرتال ) بالصفات الطبيعية الرئيسة الآتية : مخ أكبر حجماً من مخ الإنسان المعاصر ، وجمجمة كبيرة عريضة . إلى أن قال : إلى جانب أنّ السلسلة التي تغطيها الحفريات مقطعة غير متصلة بما يسمى ( الحلقات المفقودة ) .
يقول الدكتور ( سوريال ) في كتابه (( تصدّع مذهب دارون )) :
1- إنّ الحلقات المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء ، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب ، فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الوحيدة والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة ، ولا بين الحيوانات الرخوية وبين الحيوانات المفصلية ، ولا بين الحيوانات اللافقرية وبين الأسماك والحيوانات البرمائية ، ولا بين الأخير وبين الزحافات والطيور ، ولا بين الزواحف وبين الحيوانات الآدمية ، وقد ذكرتها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية .
2- تشابه أجنة الحيوانات : ذلك خطأ كبير وقع فيه بعض العلماء ، نتيجة لعدم تقدم الآلات المكبّرة التي تبين التفاصيل الدقيقة التي تختلف بها أجنة الحيوانات بعضها عن بعض في التكوين والتركيب والترتيب ، إلى جانب التزييف الذي قام به واضع صور الأجنّة المتشابهة العالم الألماني ( أرنست هيكل ) فإنّه أعلن بعد انتقاد علماء الأجنة له أنّه اضطرّ إلى تكملة الشبه في نحو ثمانية في المئة من صور الأجنّة لنقص الرسم المنقول .
3- أما وجود الزائدة الدودية في الإنسان كعضو أثري للتطور القردي فليس دليلاً قاطعاً على تطور الإنسان من القرد ، بل يكون سبب وجودها هو وراثتها من الإنسان الجدّ الذي كان اعتماده على النباتات ، فخلقت لمساعدته في هضم تلك النباتات ، كما أنّ العلم قد يكشف أنّ لها حقيقة لا تزال غائبة عنّا حتى اليوم .
فالعلم كل يوم إلى ازدياد ، وإذا كانت الخنوثة من صفات الكائنات الأولية الدنيا ، والزوجية من خصائص الكائنات الراقية ، فإنّ الثدي من أمارات الأنوثة ، ونجد الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان ، في حين ذكور ذوات الحافر كالحصان والحمار لا ثدي لها إلا ما يشبه أمهاتها . فكيف بقي أثر الخنوثة في الإنسان ، ولم يبق فيما هو أدنى منه ؟ مع أنّ ( دارون ) يزعم أنّ الإنسان تطوّر مما هو أدنى منه .
تفنيد شرح دارون لعملية التطور :
1- يقول ((دارون)) : إنّ هناك ناموساً أو قانوناً يعمل على إفناء الكائنات الحية ، فلا يبقى إلا الأصلح الذي يورث صفاته لأبنائه ، فتتراكم الصفات القوية حتى تكون حيواناً جديداً ، حقاً هناك نظام وناموس وقانون يعمل على إهلاك الكائنات الحية جميعها قويها وضعيفها ، لأنّ الله قدّر الموت على كلّ حي ؛ إلا أنّ نظاماً وناموساً يعمل بمقابلة هذا النظام ، ذلك هو قانون التكافل على الحياة بين البيئة والكائن ، لأنّ الله قدّر الحياة فهيّأ أسبابها ، فنجد الشمس والبحار والرياح والأمطار والنباتات والجاذبية ، كلّ هذه وغيرها تتعاون للإبقاء على حياة الإنسان وغيره من الحيوانات .
فالنَّظر إلى عوامل الفناء وغض النظر عن عوامل البقاء يُحدث خللاً في التفكير ، فإذا كان هناك سنة للهلاك ، فهناك سنة للحياة ، ولكلٍ دورٌ في الحياة ، وإذا كانت الظروف الطبيعية : من رياح ورعد وحرارة وماء وعواصف وغيرها قادرة على تشويه الخلق أو تدمير صنعه كطمس عين أو تهديهم بناء ، فإنّه من غير المعقول أن تقدر هذه الظروف الطبيعية الميتة الجامدة والبليدة أن تنشئ عيناً ، لمن لا يملك عيناً ، أو تصلح بناء فيه نقص .
إنَّ العقل يقبل أن تكون الظروف الطبيعية صالحة لإحداث الخراب والهلاك ، لكنَّه من غير المعقول أن تكون هذه الظروف صالحة لتفسير الخلق البديع والتصوير والتكوين المنظم المتقن ، إن أي عضو من أعضاء الكائنات الحية قد رُسم بإتقان ، وكوّن بنظام ، ورتبت أجزاؤه بحكمة بالغة محيّرة ، ونسق عمله مع غيره في غاية الإبداع ، ومن المحال أن ينسب ذلك الإتقان والنظام البديع إلى خبط الظروف الطبيعية العشواء .
قال (( جمال الدين الأفغاني )) في كتابه (( الردّ على الدهريين )) بعد نقاش لهذه النظرية : وبعد ذلك فإني سائلهم كيف اطلع كلّ جزء من أجزاء المادة مع انفصالها على مقاصد سائر الأجزاء ؟ وبأية آلة أفهم كلّ جزء منها بقية الأجزاء بما ينويه من مطلبه ؟ وأي ( برلمان أو سينات ) – مجلس الشيوخ – عقدت لإبداع هذه المكونات العالمية التركيب البديعة التأليف ؟ وأنّى لهذه الأجزاء أن تعلم – وهي في بيضة العصفور – ضرورة ظهورها في هيئة الطير يأكل الحبوب ، فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته ؟ .
إنّ هذا المبدأ الذي أطلقه (دارون) (البقاء للأصلح) قد دمّر الحياة البشرية ، لأنّه أعطى المسوغ لكلّ ظالم فرداً كان أو حكومة ، لأنّ الظالم وهو يمارس غصبه وظلمه وحربه ومكره لا يمارس رذائل خلقية ، إنّما هو يمارس قانوناً من قوانين الفطرة كما زعم ( دارون ) ، إنه يمارس قانون ( البقاء للأصلح ) ، وذلك الزعم هو الذي أعطى حركة الاستعمار كلّ بشاعتها .
2- أمّا الانتخاب الطبيعي الذي يكون به الميل في التناسل بين الأفراد القويّة مما سبب اندثار الأفراد الضعاف ، وبقاء الأقوى ، فليس ذلك دليلاً على حدوث تطور في النوع ، بل يفهم منه بقاء النوع القوي من النوع نفسه واندثار النوع الضعيف .
أمَّا إذا قيل : إنَّ تطوراً يحدث على كائن ما فإنَّه يحدث فيه فتوراً جنسياً ؛ لأنّ الألفة بين الذكور والإناث تنقص بقدر التباعد والاختلاف بينهما في الشكل . ذلك ما يقوله (دوير زانسكي) أشهر المختصين بالجيولوجية النوعية عام 1958م بعد قرن من (دارون) ، فمن قوله في هذا : " المخالفة في الشكل تضعف الميل التناسلي منه ، فالميل إلى التناسل يضعف بين الأشكال والأنواع المختلفة بقدر ذلك الاختلاف . وليس صحيحاً أنّ الصفات المحسنة في فرد من الأفراد تنقل بوساطة الوراثة .
فمثلاً هذا الحداد القويّ العضلات لا تنتقل قوة عضلاته إلى ذريته ، كما أنّ العالم الغزيز العلم لا ينتقل علمه بالوراثة إلى أبنائه " .
3- أما القول بحدوث نشوء لبعض الخصائص والصفات العارضة ، ثم توريثها في النسل ، فذلك ما يرفضه علم الوراثة الحديث . فكلّ صفة لا تكمن في الناسلة ، ولا تحتويها صبغة من صبغاتها فهي صفة عارضة ، لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة .
يقول الأستاذ ( نبيل جورج ) أحد ثقات هذا العلم : " إنّ الانتخاب الطبيعي لأجل هذا لا يصلح لتعليل مذهب النشوء ، أو مذهب التطور ؛ لأنّه يعلل زوال غير الصالح ونشأة المزايا الموروثة بين الأفراد ، والقائلون بالطفرة يقصدون أنّ الحيوان الذي لم يكن له عين تتكون له العين فجأة بوساطة بعض الأشعة .
فقد ثبت لدى المختصين أنّ الأشعة السينية تغيّر العدد في الناسلات ، لكنّ أثر الأشعة تغيير لما هو موجود ، لا إنشاء ما ليس له وجود ، فعدد ناسلات القرد غير عدد ناسلات الإنسان ، والأشعة لا تؤثر إلا في الناسلات الموجودة فضلاً من أن تحدث هذه الأشعة التي لا عقل لها ولا إدراك عقلاً للإنسان يتميز به عن القرد وغيره من سائر الحيوانات .
إنّ الأشعة تؤثر في الناسلات تأثيراً أقرب إلى التشويه منه إلى الإصلاح كما يحدث من الأشعة الذريّة . وإلى جانب مخالفة علم الوراثة ( لنظرية دارون ) فإنّ التجربة تنقضه ، فها هم اليهود والمسلمون من بعدهم يختنون أبناءهم ، ولكن ذلك كله لم يسبب أن وُلد أطفالهم بعد مرور السنين مختونين ، وهكذا فكلما تقدم العلم أثبت بطلان نظرية (دارون).
النظرية لا يؤيدها الواقع المشاهد :
1- لو كانت النظرية حقا لشاهدنا كثيراً من الحيوانات والإنسان تأتي إلى الوجود عن طريق التطور ، لا عن طريق التناسل فقط . وإذا كان التطور يحتاج إلى زمن طويل فذلك لا يمنع من مشاهدة قرود تتحول إلى آدميين في صورة دفعات متوالية .
2- لو سلمنا أنّ الظروف الطبيعية والانتخاب الطبيعي ؛ قد طورت قرداً إلى رجل – مثلاً – فإنّا لن نسلم أبداً بأن هذه الظروف قد قرّرت أيضاً أن تكون امرأة لذلك الرجل ، ليستمرا في التناسل والبقاء مع الموازنة بينهما .
3- إن القدرة على التكيف التي نشاهدها في المخلوقات كالحرباء التي تتلون بحسب المكان ، هي مقدرة كائنة في تكون المخلوقات ، تولد معها ، وهي عند بعضها وافرة ، وعند بعضها الآخر تكاد تكون معدومة ،وهي عند جميع المخلوقات محدودة لا تتجاوز حدودها ، فالقدرة على التكيف صفة كامنة ، لا صفة متطورة تكونها البيئة كما يزعم أصحاب النظرية ، وإلا كانت البيئة فرضت التكيف على الأحجار والأتربة وغيرها من الجمادات .
4- تمتاز الضفادع على الإنسان بمقدرة على الحياة في البر والماء ، كما تمتاز الطيور عليه بمقدرة الطيران والانتقال السريع وذلك بدون آلة ، كما أن أنف الكلب أشدّ حساسية من أنف الإنسان ، فهل أنف الكلب أكثر رقياً من أنف الإنسان ؟
وهل الضفادع والطيور أرقى من الإنسان في بعض الجوانب ؟
كما أنَّ عين الجمل أو الحصان أو الحمار ترى في النهار وفي المساء على السواء ، في حين تعجز عين الإنسان عن الرؤية في الظلام ، كما أن عين الصقر أشدّ حدة من عين الإنسان . فهل الصقر أو الحمار أرقى من الإنسان ؟ وإذا أخذنا الاكتفاء الذاتي أساساً للرقي كما هو بالنسبة لحال الدول فإنّ النبات يفوق الإنسان وجميع الحيوانات ، لأنّه يصنع طعامه وطعام غيره دون أن يحتاج لغذاء من غيره .
وإذا أخذنا الضخامة أساساً للرقي ، عندئذ يجب أن يكون الجمل والفيل وحيوانات ما قبل التاريخ الضخمة أرقى من الإنسان .
موقف علماء الطبيعة من النظرية :
1- المؤيدون للنظرية وتأييدهم كان أكثره انتصاراً لحرية الفكر الذي كانت الكنيسة تحاربه وتقاومه ، فقد شن علماء الطبيعة حرباً ضد قسس الكنيسة وأفكارهم بعد أن نشبت حرب طاحنة بين الفريقين .
2- المعارضون ، وهم المطالبون بدليل محسوس على فعل ( الانتخاب الطبيعي ) في تحويل الأنواع ، ولا سيما نوع الإنسان ، فالمعترضون عليه طلباً للأدلة الطبيعية لا يقلون عدداً أو اعتراضاً عن المعترضين اللاهوتيين في أوربا .
وهذه بعض آراء العلماء المعارضين كما نقلها الأستاذ إبراهيم حوراني : " إنّ العلماء لم يثبتوا مذهب ((دارون)) بل نفوه ، وطعنوا فيه ، مع علمهم أنّه بحث فيه عشرين سنة " . ومنهم العلامة ((نشل)) ، والعلامة ((دلاس)) قال ما خلاصته : " إنّ الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان ، ولا بد من القول بخلقه رأساً " .
ومنهم ((فرخو)) قال : " إنّه يتبين لنا من الواقع أن بين الإنسان والقرد فرقاً بعيداً ، فلا يمكننا أن نحكـم بأنّ الإنسان سلالة قرد أو غيره من البهائم ، ولا يحسن أن نتفوّه بذلك " .
ومنهم ((ميفرت)) قال بعد أن نظر في حقائق كثيرة من الأحياء : " إنّ مذهب ((دارون)) لا يمكن تأييده ، وإنّه من آراء الصبيان " .
ومنهم العلامة ((فون بسكون)) قال بعد أن درس هو و ((فرخو)) تشريح المقابلة بين الإنسان والقرد : " إنّ الفرق بين الاثنين أصلي وبعيد جداً ... " .
ومنهم العلامة ((أغاسيز)) قال في رسالة في أصل الإنسان تليت في ندوة العلم الفيكتورية ، ما خلاصته : إنّ مذهب (دارون) خطأ على باطل في الواقع ، وأسلوبه ليس من العلم في شيء ، ولا طائل تحته .
ومنهم العلامة ((هكسلي)) وهو من (اللاأدرية) وصديق (لدارون) قال : إنَّه بموجب ما لنا من البينات لم يثبت قط أن نوعاً من النبات أو الحيوان نشأ بالانتخاب الطبيعي أو الانتخاب الصناعي .
ومنهم العلامة ((تندل)) وهو مثل ((هيكل)) قال : " إنّه لا ريب في أنّ الذين يعتقدون بالارتقاء يجهلون أنّه نتيجة مقدمات لم يعلم بها ، ومن المحقق عندي أنه لا بدّ من تغيير مذهب (دارون) " .
نظرية لا حقيقة :
لذلك كله فقد أطلق على ما قاله (دارون) بشأن التطور (نظرية التطور) ، وهناك فرق كبير لدى العلماء بين النظرية والحقيقة أو القانون . فالنظرية في اصطلاحهم هي ما تحتمل التصديق والتكذيب ، أما الحقيقة أو القانون فلا يحتمل وجهاً من أوجه الباطل .
لماذا انتشرت إذن؟
سبب انتشار هذه النظرية هو مَجيئُها في وقت أذن الله فيه أن يظهر باطل ذلك الدّين المحرف المغير ( النصرانية ) على أيدي جماعة من أبنائه ، فكان لتقدم العلوم أثر كبير في كشف زيف ذلك الدين ، مما أدّى إلى نشوب معركة ضارية ذهب ضحيتها آلاف من علماء الطبيعة ، وفي المعترك الحامي أخذ كل فريق في استخدام كل سلاح ضد خصمه ، فانتشرت هذه النظرية سلاحاً أشهره علماء الطبيعة في وجه دينهم ، ثمّ في وجه كلّ دين وطئت أقدامهم المستعمرة أرضه ؛ لاعتقادهم بصدق هذه النظرية ، وانتقاماً من ذلك الدّين الباطل الذي وقف حجر عثرة أمام البحث في ميادين العلوم الطبيعية ، ثم وسيلة لتحطيم أديان الأمم المستعمرة حتى يسهل على المستعمرين السيطرة على هذه الشعوب .
وهكذا فرض التعليم الاستعماري هذه النظرية بعد أن حطم دينها في مناهج الدراسة ، وقدمها في ثوب ( علمي ) حتى يستطيع أن يقنع الطلاب بصدق هذه النظرية ليقرر ما ألقي في أذهان الطلاب من خلاف بين العلم الذي زيفوه والدّين ، فيكفر الناس بدينهم .
ويكفي أن يعرف القارئ أنّه بوساطة هذه النظرية انحرف كثير من أبناء الإسلام عن دينهم ، ولذلك فقد حرص الاستعمار على تعليم هذه النظرية لأبناء المسلمين في مدارسنا في الوقت الذي يحرّم فيه القانون الأمريكي تعليـم هذه النظرية في المدارس منذ سنة 1935م .
ولكن أوربا بعد أن قضت على دينها المحرف عادت لتعلن أنّ نظرية (دارون) التي استخدمتها في المعركة لدعم موقفها ليست حقيقة علمية ، وإنما هي نظرية كلما تقدمت العلوم كشفت عن باطلها .
القرآن ونظرية دارون :
حين يتكلم القرآن في الحقائق الأزلية فعلى الناس أن يصغوا وينصتوا ( وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ) [ الأعراف : 204 ] ، لأنه من العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علماً ، وما علم الإنسان ! إنّه لا شيء بجانب علم الله ( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ البقرة : 216 ] .
وكيف لا يعلم أمر خلقه وهو الذي خلقهم ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [ الملك : 14 ] .
وكيف يسمح النّاس لأنفسهم أن يتحدثوا عن أصلهم البعيد وهم لم يشهدوا ذلك الخلق ( مَّا أشهدتُّهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ) [ الكهف : 51 ] .
وما داموا لم يشهدوا ، فإنّ صوابهم في هذا المجال قليل ، وخطؤهم كثير .
عكس هذه النظرية هو الصواب :
الذي يقرره العليم الخبير خالق الإنسان مخالف تماماً لما قرره هؤلاء الجاهلون ، فالله يخبرنا أنّه خلق الإنسان خلقاً مستقلاً مكتملاً ، وقد أخبر ملائكته بشأن خلقه قبل أن يوجده ( وإذ قال ربك للملائِكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً ) [ البقرة : 30 ] .
وحدثنا عن المادة التي خلقه منها ، فقد خلقه من تراب ( فإنَّا خلقناكم من ترابٍ ) [الحج : 5] .
وفي الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ، والسهل والحزْنُ ، والخَبِيثُ والطيبُ ) . (2)
والماء عنصر في خلق الإنسان ( والله خلق كل دابةٍ من مَّاءٍ ) [ النور : 45 ] ، فهو من ماء وتراب : ( هو الذي خلقكم من طينٍ ) [ الأنعام : 2 ] .
هذا الطين تحوّل إلى صلصال كالفخار ( خلق الإنسان من صلصالٍ كالفخَّار ) [الرحمن : 14] .
وقد خلقه الله بيديه ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) [ص:75] .
وقد خلقه مجوّفاً منذ البداية ، ففي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لما صوَّر الله آدم في الجنَّة تركه ما شاء الله أن يتركه ، فجعل إبليسُ يطيفُ به ينظر ، فلمّا رآهُ أجوف عرف أنّه خُلق خلقاً لا يتمالك ) . (3)
هذا الطين نفخ الله فيه من روحه ، فدّبت فيه الحياة ، فأصبح سميعاً بصيراً متكلماً عاقلاً واعياً ، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم حين ينفخ فيه الروح ، وتدبّ فيه الحياة ( فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) [ ص : 72 ] .
وأخبرنا الله بالمكان الذي أسكنه فيه بعد خلقه ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) [ البقرة : 35 ] .
وبمجرد أن تمّ خلقه أخذ يتكلم ويفقه ما يقال له ، ففي القرآن ( وعلم آدم الأسماء كلها ثمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين – قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم – قال يا آدم أنبئهم بأسمائِهم ) [ البقرة : 31-33 ] .
وفي حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس ، فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذنه ، فقال له ربه : يرحمك الله يا آدم ، اذهب إلى أولئك الملائكة – إلى ملأٍ منهم جلوسٌ فَقُل : السلام عليكم . قالوا : عليك السلام ورحمة الله .. ) . (4)
هذا الإنسان الأول هو آدم وهو أبو الناس كافة ، وخلق الله من آدم زوجه حواء ، ( يا أيُّها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها )[النساء:1] .
ولم يكن خلق الإنسان ناقصاً ثم اكتمل ، كما يقول أصحاب نظرية التطوّر ؛ بل كان كاملاً ، ثمّ أخذ يتناقص الخلق ، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : ( خلق الله آدم وطولُهُ : سِتّون ذراعاً ) . (5)
ولذلك فالمؤمنون يدخلـون الجنّة مكتملين على صورة آدم ، ففي بقية الحديث السابق : ( فكلّ من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً ) ، ثم يقول صلى الله عليه وسلم : ( فلم يزل الخلق ينقُصُ بعده حتّى الآن ) . (6)
وقد أخبرنا الحق أنه مسخ بعض الضالين من البشر قردة وخنازير ، فالمستوى الراقي من الخلق يمكن أن ينحدر إلى المستوى الأدنى ، أمّا أن تُحوّل القرود والخنازير بشراً فهذا لا يوجد إلا عند أصحاب العقول الضعيفة .
هذه لمحة مما حكاه القرآن وأخبرت به الأحاديث عن خلق الإنسان الأول ، لم نستقص النصوص من الكتاب والسنّة في ذلك ، وإلا فالقول في ذلك أوسع وطويل ، وهو يعطي صورة واضحة لأصل الإنسان ليس فيها غبش ولا خيال ، وهذا الذي يبيّنه الإسلام أصل كريم يعتز الإنسان بالانتساب إليه ، أمّا ذلك الإنسان الذي يصوّره أصحاب نظرية التطور ، ذلك القرد الذي ترقى عن فأر أو صرصور فإنّه أصل يخجل الإنسان من الانتساب إليه .
وذلك الإنسان الذي يُدَرّسه علماء التاريخ للأطفال : الإنسان المتوحش الذي لا يفقه الكلام ، ولا يحسن صنع شيء ، الذي يتعلم من الحيوان ... فيه الكثير من التجني على أصل الإنسان الكريم .
وبعد :
فقد آن أن نفيق وأن نعود إلى ديننا الذي جاء به كتاب ربنا ، ففيه الخير ( فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله ... ) .
آن لنا أن نِعفّ عن نتاج العقول الآسنة المتعفنة في مثل هذه المجالات ، أعني المجالات التي قال الله فيها كلمة الفصل ، ولم يترك لأحد فيها قولاً .
يجب أن تتوقف هذه الهزيمة الفكرية التي تجعلنا نسارع إلى قبول كل جديد بدون رويّة وتفكر ، ثم لا نفيق على خطأ ما أخذناه إلا بعد أن يهدمه بناتُه