العلماء يبينون عجائب صنع الله في خلقه ( الجزء الأول )
وكان العلماء ولا يزالون يبينون عجائب صنع الله في خلقه ، ويعظون أنفسهم بذلك ، كما يعظون غيرهم ، وسننقل طرفاً مما توصل إليه العلماء في هذا المجال في القديم والحديث .
وأحب أن يضع القارئ نصب عينيه وهو يقرأ هذه المقتطفات قول موسى لفرعون : ( قال ربُّنا الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقه ُثمَّ هدى ) [ طه : 50 ] . فالله أعطى كل شيء خلقه الذي يناسبه ، وهداه لما فيه صلاحه .. ، وسنرى نماذج من هذا الإعطاء وتلك الهداية .
1- تكون الأجسام من الخلايا وانقسامها
أ- مم تتكون أجسام الأحياء وكيف ؟
يقول باحث معاصر هو الدكتور يوسف عز الدين مجلياً هذا الموضوع : " معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد هائل من تلك الوحدات الدقيقة الحجم التي نسميها (الخلايا) ، كما يتكون المبنى من مجموعة من الأحجار المرصوصة " .
ب- لماذا تنقسم الخلايا دائماً ؟
ويتابع الدكتور يوسف عز الدين كلامه مبيناً السر في انقسام الخلايا فيقول : " وخلايا أجسامنا وأجسام غيرنا من الحيوانات دائمة الانقسام ، وذلك الانقسام قد يكون لنمو الجسم ، أو لتعويض ما يفقد أو يموت من الخلايا لأسباب عديدة . وكلّ خلية من هذه الخلايا تتكون أساساً من مادة عجيبة نطلق عليها اسم (( البروتوبلازم )) .
وتوجد بداخل كل خلية محتويات عديدة ذات وظائف محددة ، ومن هذه المحتويات أجسام دقيقة تحمل عوامل وراثية هي التي نطلق عليها اسم ((الكروموسومات)) .
وعدد هذه ((الكروموسومات)) ثابت في خلايا كلّ نوع من أنواع الحيوانات والنباتات المختلفة ، فعددها في خلايا القط – مثلاً – يختلف عن عددها في خلايا الكلب أو الفيل أو نبات الجزر أو الفول .
وفي كل خليّة من الخلايا التي يتكون منها جسم الإنسان يوجد ستة وأربعون من هذه (الكروموسومات) .
وعندما تنقسم الخلية إلى خليتين داخل أجسامنا فإنّ كلّ خلية جديدة لا بدّ أن تحتوي على العدد نفسه من (الكروموسومات) ، وهي ستة وأربعون ، إذ لو اختل هذا العدد لما أصبح الإنسان إنساناً . والخلايا كما ذكرت دائمة الانقسام ، يحدث هذا في جميع ساعات اليوم حتى في أثناء نومنا ، ونحن حتى الآن لا ندرك حقيقة القوى المهيمنة على هذه العملية المذهلة : عملية انقسام الخلايا ، بل يكتفي العلم بوصف الخطوات العملية التي يمكن ملاحظتها تحت عدسات (الميكروسكوب) العادي أو عن طريق (الميكروسكوب الإلكتروني) الذي يكبر الأشياء تكبيراً أكثر بكثير من تكبير الميكروسكوب العادي " .
جـ - لماذا تختلف الخلايا التناسلية عن غيرها ؟
وذكر الدكتور يوسف : " أن جميع الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام في جسم الإنسان لا بدّ أن تحتوي على ستة وأربعين (كروموسوماً) فيما عدا نوعين من الخلايا ، هما الخلايا التناسلية ، أي الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى ، وعندما تنقسم خلايا الأنسجة لتكوين هذه الخلايا التناسلية فإنها تنتج خلايا لا تحتوي على الستة والأربعين (كروموسوماً) ، بل تحتوي على نصف هذا العدد ، أي يصبح في كل خلية تناسلية ذكرية أو أنثوية ثلاثة وعشرون (كروموسوماً) فقط " .
ثم بين لماذا يحدث ذلك ، فقال : " يحدث هذا لحكمة بالغة ولهدف عظيم ، إذ إنّ الخلية الذكرية (الحيوان المنوي) لا بدّ أن تندمج مع الخلية الأنثوية (البويضة) لتكوين أول خلية في جسم الجنين ، وهي التي نطلق عليها اسم (الخلية الملقحة) ، حيث ينضم الثلاثة والعشرون (كروموسوماً) التي في الخلية الذكرية إلى الثلاثة والعشرين (كروموسوماً) التي في الخلية الأنثوية لكي يعود عدد (الكروموسومات) في الخلية الجديدة إلى العدد الأصلي ، وهو ستة وأربعون (كروموسوماً) .
وهذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة وأربعين (كروموسوماً) توالي انقسامها ، فتصبح خليتين ، ثم أربع خلايا ، ثم ثماني خلايا وهكذا ، حتى يتم تكوين الجنين الذي يخرج من رحم أمه ، ويستمر نموه عن طريق انقسام الخلايا حتى يصبح إنساناً كامل النمو في كلّ خلية من خلاياه ستة وأربعون (كروموسوماً) كما هو الحال في خلايا جسد أبيه وأمه وأجداده وجميع أفراد الجنس البشري " .
" إنَّ اختزال عدد (الكروموسومات) إلى النصف عند تكوين الخلايا التناسلية بالذات لكي تندمج فيعود العدد الأصلي (للكروموسومات) في الخلايا لا يمكن مطلقاً أن يكون نتيجة مصادفة عمياء ، بل لا بدّ أن يكون نتيجة تقدير دقيق من قوة عليا تعلم ماذا تفعل .
وهي في الوقت نفسه لا يمكن أن تخضع للتجربة واحتمال الخطأ ، إذ لو حدث خطأ مرة واحدة عند بدء الخلق لقضي على الكائن الحي قبل تكوين الجيل الثاني . أي أنّ هذا الترتيب لا بد أن يكون قد تم منذ تكوين أول جنين ظهر في الوجود ، ألا يكفي هذا وحده دليلاً على وجود قوة عليا مدبرة مقدرة حكيمة ؟ " .
د- لماذا لا تنقسم خلايا المخ ؟
أما النوع الآخر من الخلايا التي تخالف بقية خلايا الجسم فهي خلايا الدماغ ، وهي تخالف بقية الخلايا في كونها لا تنقسم ، وعن السر في عدم انقسامها يقول الدكتور يوسف عز الدين :
" لا يمكن أن يكون عن طريق التجربة واحتمال الخطأ والصواب أن الخلايا الوحيدة التي لا تنقسم هي الخلايا العصبية التي يتكون منها المخ وباقي الجهاز العصبي ، لو انقسمت كما يحدث لباقي الخلايا لحدثت كارثة مروعة ، إنّ خلايا المخ في هذه الحالة لن يمكنها الاحتفاظ بشخصية الإنسان ، وسوف تتلاشى جميع معالم الذاكرة في خلال ساعات قلائل .
إنَّ عدد خلايا المخ عند ولادة الإنسان أو أي حيوان آخر لا تزيد عليها خلية واحدة حتى وفاته ، بينما نجد أنّ الكرات الدموية الحمراء التي تسبح في الدم ، ما هي إلا خلايا تموت ، ويحلّ محلها خلايا جديدة كلّ نحو مائة يوم . وتتكون الخلايا الحمراء (الكرات الحمراء) في نخاع العظام ، ثم تنطلق لكي تسبح في تيار الدم ؛ لتحل محل الخلايا التي استهلكت " .
هـ- السر في تفاوت قوة عضلات الجسم :
ويتحدث الدكتور عن هذا الموضوع فيقول : " أقوى عضلات في جسم الإنسان أو الحيوانات الثديية هي عضلات الرحم عند الأنثى ، تلك هي التي تدفع الجنين ليخرج من بطن أمه ، إذ لو لم تكن هذه العضلات بهذه القوة منذ بدء خلق الإنسان أو غيره من الحيوانات لما خرج إلى الوجود أول جنين من بطن أمه .
وتلي عضلات الرحم في القوة عضلات القلب والفكين ، فعضلات القلب لا بد أن تكون قوية لتصمد للعمل ليلاً ونهاراً لدفع الدم إلى الأوعية الدموية لمدة قد تطول لأكثر من مائة عام ، وكذلك الحال في عضلات الفكين التي ينبغي أن تظلّ قادرة على دفع الأسنان لينطبق بعضها على بعض لكي تمضغ أطناناً من الطعام طوال حياة الإنسان " .
2- مقاومة الأحياء لعوامل الفناء
ويقرر الدكتور يوسف : " وجود صفة مهمة تشترك فيها جميع الكائنات الحية من أدناها إلى أرقاها ، هذه الصفة هي مقاومة عوامل الفناء ، إذ إنّ خالق جميع هذه الكائنات يريد لها البقاء .
إنَّ ( فيروس الأنفلونزا ) يتشكل من آنٍ لآخر بأشكال مختلفة ؛ لتصعب مقاومته والقضاء عليه ، والحشرات مع توالي الأجيال تكتسب مناعة ضدّ المبيدات الكيميائية ؛ لكي تقاوم عوامل الفناء وانقراض الجنس .
بل في الإنسان نفسه لوحظ كثرة الإنجاب في فترات الحروب ، كما لوحظ أنّ أية سيدة تواظب على تناول حبوب منع الحمل مدة طويلة ثم تسهو عن تناولها بعض الأيام – فإنّ النتيجة في معظم الأحيان تكون إنجاب عدة توائم ؛ لتعويض النقص في الذرية الذي حدث في أثناء فترة الامتناع عن الحمل . وإذا استأصل الإنسان إحدى الكليتين لسبب من الأسباب فإنّ الكلية الباقية يزداد حجمها وتؤدي عمل الكليتين ؛ وكأن في الجسم عقلاً يدرك به ما حدث من نقص فيسرع لتعويضه .
الله وحده هو الذي زود هذه المخلوقات بهذه القدرة العجيبة على التوازن حتى لا تنقرض وتتعرض للفناء ، كما زود العديد من الحيوانات بوسائل للدفاع عن أنفسها لا يختلف في ذلك الإنسان عن العقرب أو الثعبان أو أم أربعة وأربعين أو غيرها .
لا يمكن أن يكون هذا المبدأ أو القانون الذي يسود جميع الكائنات الحية من صنع مصادفة عمياء تتخبط في الظلام ، إذ إنّ المصادفة لا يمكن أن تتخذ مظهر قانون عام تخضع له جميع الكائنات " .
3- هداية النحل وشيء من عجائب صنع الله فيه
ويحدثنا ابن القيم (1) رحمه الله تعالى عن بدائع صنع الله في خلقه ، مبيناً هداية الله للنحل في أمور معاشه : " وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب وذلك أن لها أميراً ومدبراً ، وهو اليعسوب ، وهو أكبر جسماً من جميع النحل ، وأحسن لوناً وشكلاً .
وإناث النحل تلد في إقبال الربيع (2) ، وأكثر أولادها يكنّ إناثاً ، وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها ، بل إما أن تطرده ، وإما أن تقتله ، إلا طائفة يسيرة منها ، وذلك أن الذكور منها لا تعمل شيئاً ولا تكسب .
والنحل تقسم فرقاً ، فمنها فرقة تلزم الملك ، ولا تفارقه ، ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه ، والشمع هو ثفل العسل ، وفيه حلاوة كحلاوة التين ، وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل ، فينظفه النحل ، ويصفيه ، ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها ، وفرقة تبني البيوت ، وفرقة تسقي الماء , وتحمله على متونها ، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل ، وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعتها وقتلتها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال ، وتعديهن ببطالتها ومهانتها .
وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته ، فيُبنى له بيت مربع يشبه السرير والتخت ، فيجلس عليه ، ويستدير حوله طائفة من النحل يشبه الأمراء ، والخدم والخواص ، لا يفارقنه ، ويجعل النحل بين يديه شيئاً يشبه الحوض يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه ، ويملأ منه الحوض ، ويكون ذلك طعاماً للملك وخواصه .
ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال ، وتبني بيوتها مسدسة متساوية الأضلاع ، كأنها قرأت كتاب إقليدس ، حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها ؛ لأنّ المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة ، والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلاً مستديراً كاستدارة الرحى ، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل ، ويشد بعضه بعضاً ، حتى يصير طبقاً واحداً محكماً ، لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر .
فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن صنع مثله ، فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين : إحداهما : أن لا تكون زواياها ضيقة حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلاً . والثانية : أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض ، وامتلأت العرصة منها فلا يبقى منها ضائعاً ، ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط ؛ فإن المثلثات والمربعات ، وإن أمكن امتلاء العرصة منها إلا أن زواياها ضيقة ، وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العرصة منها ، بل يبقى فيما بينها فروج خالية ضائعة ، وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين ، فهداها – سبحانه – إلى بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطرة ولا آلة ، ولا مثال يحتذى عليه ، وأصنع بني آدم لا يقدر على بناء بيت المسدس إلا بالآلات الكبيرة .
فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها وتأتيها ذللاً لا تستعصي عليها ، ولا تضل عنها ، وأن تجتني أطيب ما في المراعي وألطفه ، وأن تعود إلى بيوتها الخالية ، فتصب فيها شراباً مختلفاً ألوانه ، فيه شفاء للناس ، إن في ذلك لآيات لقول يتفكرون .
فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصاً تسيح سهلاً وجبلاً ، فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار وورق الأشجار ، فترجع بطاناً .
وجعل – سبحانه – في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جنته ، فتعيده حلاوة ونضجاً ، ثم تمجه في البيوت ، حتى إذا امتلأت ختمتها ، وسدت رؤوسها بالشمع المصفى ، فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته ، فاتخذت فيه بيوتاً ، وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى ، فإذا برد الهواء ، وأخلف المرعى ، وحيل بينها وبين الكسب ، لزمت بيوتها ، واغتذت بما ادخرته من العسل ، وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة وتسيح في المراتع ، وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل ، فإذا أمست رجعت إلى بيوتها .
وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادراً إذا اشتهى التنزه ، فيخرج ، ومعه أمراء النحل والخدم ، فيطوفُ في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ، ثم يعود إلى مكانه .
ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه ، فيغضب ويخرج من الخلية ، ويتباعد عنها ، ويتبعه جميع النحل ، وتبقى الخلية خالية .
فإذا رأى صاحبها ذلك ، وخاف أن يأخذ النحل ، ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لاسترجاعه وطلب رضاه ، فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل ، فيعرفه باجتماع النحل إليه ، فإنها لا تفارقه ، وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقوداً ، وهو إذا خرج غضباً جلس على مكان مرتفع من الشجرة ، وطافت به النحل ، وانضمت إليه ، حتى يصير كالكرة ، فيأخذ صاحب النحل رمحاً أو قصبة طويلة ، ويشد على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر النظيف ، ويدنيه إلى محل الملك ، ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شيء من آلات الطرب فيحركه ، وقد أدنى إليه ذلك الحشيش ، فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك ، فإذا رضي غضبه طفر ووقع على الضغث ، وتبعه خدمه وسائر النحل ، فيحمله صاحبه إلى الخلية ، فينزل ويدخلها هو وجنوده ، ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام .
ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة ، ولا تدين لطاعتها ، والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة ، وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخلايا ، وإذا فعلت ذلك جاد العسل ، وتجتهد أن تقتل ما تريد قتله خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته .
ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم ، وبينها وبين العسالة حرب ، فهي تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها ، وتقصد هلاكها ، والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها ، فإذا هجمت عليها في بيوتها حاولتها وألجأتها إلى أبواب البيوت فتتلطخ بالعسل ، فلا تقدر على الطيران ، ولا يفلت منها إلا كلّ طويل العمر ، فإذا انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى ، فحملتها وألقتها خارج الخلية .
وفي النحل كرام عمال لها سعي وهمة واجتهاد ، وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة ، فالكرام دائماً تطردها وتنفيها عن الخلية ، ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها .
والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ، ولذلك لا تلقي زبلها إلا حين تطير ، وتكره النتن والروائح الخبيثة ، وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهاداً من الكبار ، وأقل لسعاً وأجود عسلاً ، ولسعها إذا لسعت أقل ضرراً من لسع الكبار .
ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه فقد خصت من وحي الرب تعالى وهدايته بما لم يشركها فيه غيرها ، وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام كان أكثر الحيوان له أعداء ؛ وكان أعداؤه من أقل الحيوان منفعة وبركة ، هذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم " . (3)
الباحثون المعاصرون يتحدثون عن عالم النحل (4)
تقدم العلم اليوم ، وبتقدمه تعرفنا على كثير من عجائب الخلق وأسرار الكون ، لقد أكد لنا العلماء ما عرفناه من قبل أن من أن عالم النحل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : النحلة الملكة ، والنحلة الذكر ، والنحلة الشغالة .
أما ملكة النحل فهي أم الخلية كلها ، وجميع النحل في الخلية أبناؤها ، ويكفي أن تعلم أن الملكة تضع في كل يوم تطلع فيها الشمس ما بين (1500) بيضة إلى (2000) بيضة ، بل يزيد العدد إلى (3500) بيضة . ويستمر هذا على امتداد موسم التكاثر الذي يبدأ من إقبال الربيع ، وينتهي بانتهاء الصيف .
وما هذا العدد الهائل من البيض إلا لمواجهة النقص المستمر الذي يصيب خلية النحل ، فالنحلة عمرها قصير ، فهو يتراوح بين خمسة أسابيع وسبعة أسابيع ، ولذلك فإنّ الخلية تحتاج إلى أجيال جديدة ترفد الخلية بأعداد كبيرة تواجه النقص الذي يلحق بها ، كي تستمرّ الخلية في القيام بالواجبات التي يحتاج إليها عالم النحل ، وحتى تستطيع الدفاع عن نفسها في مواجهة الأعداء والأخطار ، ولولا ذلك لا نقرضت الخلية وبادت .
ومن بديع صنع الله في ملكة النحل أنها تضع بيضها في البيوت التي تبنيها الشغالة بمقاسات مختلفة ، فالمقاس الكير يعده النحل لملكة المستقبل ، والبيضة التي تضعها الملكة فيه تكون ملكة ، والبيضة التي تضعها الملكة في البيت الأصغر حجماً ومقاسه ربع إنش تصبح نحلة ذكراً ، أما البيضة التي تضعها في البيت الصغير ومقاسه خمس إنش فتنتج نحلة شغالة ، بقي أن نعلم أن الملكة تضع مع بيضة النحلة الشغالة ثلاثة إلى أربعة حيوانات منوية لإخصابها ، فتكون نحلة شغالة ، بينما تضع ، في بيت النحلة الذكر بيضة غير مخصبة .
ومن عجيب صنع الله في النحلة الملكة أنها لا تُلِّقحُ إلا في الهواء في أثناء طيرانها ، ولذلك سّر عجيب ، فالنحلة الذكر لا يمكنها تلقيح الملكة وهي رابضة على الأرض ، ذلك أن عضو التذكير عندها كامن ، ولا يمكن ظهوره إلا إذا حلقت في الفضاء ، وعند ذلك تمتلئ أكياس موجودة في النحلة الذكر بالهواء ، فتنتفخ في أثناء الطيران ، ويؤدي انتفاخها إلى الضغط على عضو التذكير ، فيخرج من مكمنه .
ومن عجائب صنع الله في الملكة العذراء قدرتها على دعوة الذكر لتلقيحها ، وذلك بأصوات تصدرها تدعو بها الذكور إليها ، وتخرج من خليتها حائمة حولها مصدرة تلك الأصوات ، وتستقبل الذكور هذه الدعوة لا في الخلية وحدها ، بل في جميع الخلايا المجاورة ، وتنطلق أسراب الذكور خلف الملكة ، وهي تغذ السير منطلقة في الفضاء الرحب ، ويفوز بتلقيحها أقوى الذكور وأشدها وأسرعها ، ولكنه يفقد حياته بعد ذلك ، ذلك أنه بعد تلقيحه الملكة يفقد عضو تذكيره ، إذ يبقى عضوه فيها مما يسبب له نزيفاً يفقده حياته .
ويسأل القارئ عن كيفية سماع الذكور لدعوة الملكة ، والجواب : أن الله زود كل نحلة بقرني استشعار ، وهذان القرنان يتألفان من حلقات متصل بعضها ببعض ، عليها عدد كبير من الثقوب ، ويبلغ عدد الحلقات في الذكر اثنتا عشرة حلقة ، في حين أن عددها في الشغالة أو الملكة إحدى عشرة حلقة .
وتبلغ عدد ثقوب الحواس الكائنة على قرن الاستشعار عند الذكر (2800) ثقبٍ ، وفي الشغالة (2400) ، وفي الملكة (1600) .
والحقيقة أن قرني الاستشعار في النحلة بمنزلة هوائي الإذاعة يستخدمه لالتقاط الأصوات الصادرة من الملكة ، ولغير ذلك من الأصوات ، كما تستخدمه في الشم والسمع واللمس .
وإذا فقدت النحلة الشغالة أو الذكر أو الملكة قرني الاستشعار فإنها لا تستطيع أن تقوم بدورها ، ففيه يتركز معظم حواسها : السمع والشم واللمس كما سبق .
وتكوين النحلة الذكر يتناسب مع المهمة التي خلق من أجلها ، فهو كبير قوي ، يأكل كثيراً ، ولا يعمل شيئاً ، فلا يجمع الرحيق ، ولا يصنعه ، ولا يبني ، ولا يحرس ، حتى طعامه ، تضعه النحلة الشغالة في فمه ، كل ما يستطيع القيام به هو تلقيح الملكة ، ولذا فإن النحلة الشغالة بعد انتهاء مهمته تمتنع عن إمداده بالغذاء ، وأكثر من هذا تهاجم الشغالة الذكور فتقتلها أو تطردها .
بقي أن نعلم أن عدد الذكور من النحل قليل بالنسبة لتعداد النحل ، فلا يتجاوز عددها في الخلية الواحدة المائتين .
أما النحلة الشغالة فإنها تكون العدد الأكثر في الخلية ، كما أنها العنصر الفعال فيها ، وهي التي تقوم بالأعمال المختلفة ، والمهمات الصعبة .
فهي التي تجني الرحيق ، وتجمع غبار الطلع ، وتصنع العسل ، وتمدّ الملكة بغذائها الخاص ، وتبني الأقراص التي يحفظ فيها العسل ، وتربي فيها الأجيال الجديدة من النحل ، وتحرس الخلية ، وتقوم بتنظيفها ، والمحافظة عليها ، بل تقوم بتهويتها وتدفئتها .
والمهمات في الخلية موزعة في تخصصات وهذه التخصصات ترتبط بعمر النحلة ، فلكل سن من النحل عمل يقوم به ، وكلما امتد العمر بالنحلة فإنها تتحول إلى عمل آخر ، وبذلك تقوم النحلة بعد أن تستكمل عمرها بالمرور على كل الأعمال والمهمات التي تحتاج إليها الخلية ، ويلاحظ أن النحلة تبدأ بالأعمال السهلة التي لا تحتاج إلى جهد كبير ، وتنتهي إلى أشق الأعمال وأصعبها وهي الجولان في الحقول ، وجني الرحيق وغبار الطلع والماء ، ثم صنع العسل وتخزينه ، ونلاحظ أيضاً أنها تتدرج في الوظائف بحسب تكامل الخصائص التي يهبها الله إياها ، فكل مهمة تصير إليها وتعمل فيها تتواءم مع تكامل أجهزتها التي تمكنها من القيام بالدور الجديد والمهمة الجديدة .
فالنحلة الشغالة في يومها الأول والثاني تقوم بمهمة تنظيف البيوت التي خرجت منها أجيال النحل التي تكامل خلقها ، فتنظف هذه البيوت ، وتعدها لأجيال أخرى ، ولا تضع الملكة البيض في هذه البيوت إلا بعد أن تتفحصها وتجدها نظيفة تماماً .
وفي يومها الثالث والرابع تقوم بدور الحاضنة ليرقات النحل الشغالة والذكور التي يزيد عمرها على ثلاثة أيام ، فتقدم لها ما يسميه العلماء ( بخبز النحل ) وهو مزيج من العسل وحبوب اللقاح ، تأخذه مما خزنته النحل في العيون السداسية .
وبعد اليوم الخامس حتى اليوم الثاني عشر من عمر النحلة تقوم بتغذية النحلة الملكة بالغذاء الملكي طيلة عمرها ، كما تمدّ الغذاء الفاخر صغيرات الشغالة والذكور في يومهن الأول والثاني والثالث ، والنحل يقوم بهذه المهمة في هذه السن (5-12) لنمو غدد خاصة في هذه الفترة في جانبي البلعوم ، تتمكن بها النحل من صناعة الغذاء الملكي .
وبعد اليوم الثاني عشر تتمكن النحلة من الطيران ، ولكنها لا تذهب بعيداً ، كل ما تفعله أن تتعلم وتتمرن ، ومهمتها الرئيسية من اليوم الثاني عشر إلى اليوم الثامن عشر هو بناء الأقراص الشمعية التي تعد لتخزين العسل ، وتربية أجيال النحل الجديدة .
والسبب في تخصصها بهذا الدور في هذه السن هو نمو أربعة أزواج من الغدد الموجودة على حلقات البطن ، ومن هذا الشمع تقوم النحلة باستخدام فكيها في هذه السن ببناء تلك البيوت التي بلغت الغاية في الدقة والإتقان بأبعاد محددة وأشكال هندسية في غاية الروعة والتنظيم .
وفي اليوم التاسع عشر واليوم العشرين تقوم النحلة بتنظيف الخلية وحراستها ، وبعد اليوم العشرين تقوم النحلة بالانطلاق إلى الحقول وجمع الرحيق وغبار الطلع وصنع العسل ، وجلب الماء إلى الخلية ، وهذه المرحلة الأخيرة تمثل الجزء الأكبر من عمر النحلة .
أجيال تذهب من النحل ، وأجيال تأتي ، ويترقى النحل في سلسلة متوالية من الأعمال تضمن القيام بالأعمال كلها باستمرار من غير أن تتخصص طائفة من النحل بعمل طيلة عمرها ، ولكن التخصص يأتي في كل مرحلة من مراحل العمر .
سبحان الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي خلق هذه الكائنات الصغيرة ، وعلمها أن تقوم بهذه الأعمـال بمثل هذه الدقة والإتقان ، إنه إبداع وإعجاز يدل على العليم الخبير .
ومن الإبداع الإلهي في النحلة هذا التكوين الذي أعطاه الله إياها ، فقد جعل لها الباري سبحانه معدتين ، إحداهما تستعملها لجمع المواد الأولية التي تستخلصها من رحيق الأزهار ، أو تحمل بها الماء ، وتنقله إلى الخلية ، والمعدة الأخرى مخصصة للطعام الذي تهضمه وتتغذى به .
ومن عجب أن النحلة إذ تجمع في معدتها الأولى ما تجنيه من الرحيق ، لا تكتفي بنقله ، ولكنها في أثناء حملها له وتوصيله للخلية تقوم بعملية أولية لتحويله إلى العسل ، وذلك بإفراز الخمائر اللازمة لتحقيق ذلك .
والنحلة تحتاج إلى غبار الطلع لأمور مختلفة في الخلية ، وقد زودها خالقها بتجويف خاص لخزن هذه الحبوب في الوجه الخارجي لساق الرجل الخلفية ، تسمى سلة الطلع ، وجعل لها على الوجه الداخلي لرسغ الرجل الخلفية ما يشبه الفرشاة تستعملها الشغالة في تمشيط غبار الطلع وتكتيله تمهيداً لجمعه في سلة الطلع .
ومن العجائب المذهلة التي اكتشفها العلماء في النحلة ، تلك الغدة التي في مؤخرة البطن ، وقد سماها العلماء ( غدة ناسانوف) ، وهذه الغدة تفرز رائحة خاصة ، ومن العجيب أن نحل كل خلية يتعارف على رائحة تميز نحلها عن غيره ، وتستطيع النحلة أن تعود إلى بيتها من مكان بعيد تهديها تلك الرائحة المميزة عن رائحة غيرها من النحل ، وبوابو الخلية وحراسها يعرفون النحلة التي تتبع الخلية عن طريق تلك الرائحة المميزة المنبعثة من النحلة .
والعجب أن النحل قادر على التعارف على رائحة جديدة عندما يحصل ما يستدعي ذلك ، فمثلاً عندما تخرج طائفة من النحل لتشكل خلية جديدة ، فإن الخلية الجديدة تتعارف على رائحة جديدة ، وعندما مزج العلماء بطريقة علمية طائفة من النحل مع طائفة أخرى وجدوا أن النحل بعـد دمجه تعارف على رائحة واحدة جديدة تميزه عن غيره .
ومن عجائب هداية النحل أنه يبني جدران البيوت السداسية من الشمع الخالص الذي لا ينفذ منه الهواء ، ولكنه عندما يغلق أبواب البيوت التي تحوي يرقات النحل يخلط الشمع بحبوب اللقاح ، وبهذا يتسرب الهواء من خلال حبوب اللقاح ، فتبقى اليرقات حيّة ، ولو لم يهدها ربها إلى ذلك لماتت اليرقات ، وزال النحل من فوق ظهر البسيطة .
وقد حدثنا ربنا فيما حدثنا عنه من آياته الباهرة التي تستدعي التأمل والتفكر إلى هدايته العجيبة للنحل ( وأوحى ربُّك إلى النَّحل أن اتَّخذي من الجبال بيوتاً ومن الشَّجر ومما يعرشون – ثُمَّ كلي من كل الثَّمرات فاسلكي سبل ربك ذُللاً يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ للنَّاس إنَّ في ذلك لآيةً لقومٍ يتفكرون )[النحل: 68-69] .
وقد اهتدى المسلمون للمنافع العظيمة التي في العسل ، ولكن الضالون عن هدى الله لم يكتشفوا ما فيه من المنافع إلا في هذه الأيام ، وقد اكتشف الباحثون حقائق مذهلة ، فوجدوا أن العسل غذاء ودواء ، وهو غذاء من نوع راق ، يحوي على خصائص لا تكاد توجد في غيره ، ووجدوا أنه علاج يكاد يصلح لجميع أنواع الأمراض ، ولا يزال العلم يكتشف في كل يوم في العسل نفعاً جديداً .
كيف يدل النحل بعضه بعضاً على مكان الغذاء ؟
مما لاحظه العلماء المعاصرون الطريقة التي يدل بها النحل بعضه بعضاً على مكان الغذاء ، يقول الدكتور يوسف عز الدين : " لو اكتشف أحد عمال النحل حقلاً أو كمية من النباتات تعتبر مصدراً للغذاء ، فإنّه يعود للمستعمرة ليخبر باقي العمال ، عن هذا الكنز الذي اكتشفه ، وذلك عن طريق طقوس رقص عجيبة تفعلها النحلة بطريقة غريزية دون أن تدري لماذا تفعل هذا .
إنها ترقص رقصات غريبة ذات مدلولات معينة ، إذ إن جسمها يصنع في أثناء الرقص زاوية تدل على زاوية الشمس ،وإذا كان الحقل الذي اكتشفه قريباً من المستعمرة فإنّ الرقصة في هذه الحالة تختلف عنها في حالة بُعد الحقل مسافة أطول .
ومن هذه الرقصات يفهم النحل أنّ حقلاً من البرسيم أو غيره من النباتات ذات الأزهار التي يحضر النحل غذاءه منها ، يقع على بعد معين ، والطريق إليه يقتضي السير بزاوية معينة بالنسبة لمكان الشمس .
فيؤدي بعض العمال الرقصة نفسها ، عند ذلك تطمئن النحلة التي اكتشفت الحقل إلى أنّ باقي النحل قد فهم ما تريد أن تقوله ، فيطير باقي الأفراد ، ويصلون مباشرة إلى ذلك الحقل لإحضار مزيد من الغذاء .
إنّ النحلة المكتشفة قد نقلت إلى النحل الذي في المستعمرة عدداً من المعلومات برقصتها ، ولو حاولنا نحن البشر أن نتوصل إلى ما توصل إليه النحل من فهم لهذه الطلاسم عن طريق رسم بياني لاستغرق منا وقتاً لا يقل عن ثلث ساعة إن كان لدينا إلمام كاف بالعلوم الرياضية ، ولكن النحل يفهم كلّ ذلك في الحال ، ويطير نحو الحقل في خط مستقيم ليحضر ما يلزمه من غذاء .
شيء مذهل لا يمكن تفسيره إلا إذا آمنا بوجود نفحة إلهية أودعها خالق الكون في هذه الكائنات الصغيرة التي لا تملك قدراً من العقل أو قدرة على التفكير تمكنها من القيام بما يلزمها " .
رؤية النحل ما لا نراه من الألوان
ويذكر لنا الدكتور يوسف أن من عجائب النحل رؤيته " لوناً لا نراه نحن البشر ، ولا يمكن أن نتصوره ، وهو اللون فوق البنفسجي الذي نراه نحن أسود ، فالنحل يرى الأشعة فوق البنفسجية " ، ثم يبين لنا الحكمة من وراء رؤية النحل لذلك اللون فيقول : " والحكمة في ذلك هي أن تلك الأشعة هي الوحيدة القادرة على اختراق السحاب .
والنحل قد يعيش في مناطق يكسوها السحاب معظم شهور السنة ، ورؤية الشمس ضرورية لمعرفة مكان الحقول التي بها الغذاء ، وهنا تكمن الحكمة في رؤية النحل لذلك اللون فوق البنفسجي ، فإنها بذلك يصبح في إمكانها رؤية الشمس من خلال السحب ، فلا يموت النحل جوعاً في حالة اختفاء الشمس خلف الغمام ، حقيقة مذهلة تدلّ على وجود خالق مدبر ومقدر يعلم ما يصنع ، إذ إن القدرة على رؤية ذلك اللون لا يمكن أن تكون قد اكتسبها النحل مع مرور الزمن ، بل لا بد أن تكون قد وجدت منذ أول لحظة خلق الله فيها النحل ، إذ لو لم توجد من أول الأمر ، لانقرض النحل في تلك المناطق منذ أمد بعيد " .
4- هداية النمل وعجائب صنع الله فيه
ويحدثنا ابن القيم عن نوع آخر من مخلوقات الله ، ويبين لنا هداية الله لها في معاشها فيقول :
" وهذا النمل من أهدى الحيوانات ، وهدايتها من أعجب شيء ، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها ، وإن بعدت عليها الطريق ، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلى بيوتها ، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان .
فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين ؛ لئلا ينبت فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة ، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوماً ذا شمس فخرجت به ، فنشرته على أبواب بيوتها ، ثم أعادته إليها ، ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها .
ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله – سبحانه – في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها : ( يا أيَّها النَّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) [ النمل : 18 ] ، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته ، ثم أتت بالاسم المبهم ، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة العموم ، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر ، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول ، وهو خشية أن يصيبهم معرّة الجيش ، فيحطمهم سليمان وجنوده ، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك ، وهذا من أعجب الهداية .
وتأمل كيف عظم الله – سبحانه – شأن النمل بقوله : ( وحشر لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطَّير فهم يوزعون ) [ النمل : 17 ] ، ثم قال : ( حتَّى إذا أتوا على واد النَّمل ) [ النمل : 18 ] ، فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي ، ودل على أن ذلك الوادي معروفٌ بالنمل كوادي السباع ونحوه ، ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم ، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكناً لا يدخل عليهم فيه سواهم ، ثم قالت : ( لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده ) [ النمل : 18 ] ، فجمعت بين اسمه وعينه ، وعرفته بهما ، وعرفت جنوده وقائدهم ، ثم قالت : ( وهم لا يشعرون ) [ النمل : 18 ] فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون وبين لومة أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ، ويدخلوا مساكنهم ، ولذلك تبسم نبي الله ضاحكاً من قولها ، وإنه لموضع تعجب وتبسم .
وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( نهى عن قتل النمل والنحلة والهدهد والصرد )) (5) ، وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأخرج ، وأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه : أن قرصتْك نملة أحرقت أمة من الأمم تُسبحُ ! فهلا نملة واحدة !) . (6)
وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير ، قال : قال أبو موسى الأشعري : إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة .
ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سمواته على عرشه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه ، قال : ( خرج نبيٌّ من الأنبياء بالناس يَسْتَسْقُون ، فإذا هم بنملة رافعة قَوائِمها إلى السماء تدعو مُستلقية علـى ظهرها ، فقال : ( ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم ) ولِهذا الأثر عدة طرق ، ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره .
وفي مسند الإمام أحمد : ( أن سليمان بن داود خرج يستسقي ، فرأى نملة مُستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقولُ : اللهم إنا خلق من خلقك ، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك ، فإما أن تُسقينا وترزقنا ، وإما أن تهلكنا ، فقال : ارجعوا فقد سُقيتُمْ بدعوة غَيركم ) .
ولقد حُدّثت أن نملة خرجت من بيتها ، فصادفت شق جرادة ، فحاولت أن تحمله فلم تطق ، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها ، قال : فرفعتُ ذلك من الأرض ، فطافت في مكانه فلم تجده ، فانصرفوا وتركوها .
قال : فوضعته ، فعادت تحاول حمله فلم تقدر ، فذهبت ، وجاءت بهم ، فرفعته ، فطافت فلم تجده فانصرفوا ، قال : فعلت ذلك مراراً ، فلما كان في المرة الأخرى استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها ، وقطعوها عضواً عضواً ، قال شيخنا : وقد حكيت له هذه الحكاية فقـال : هذا النمل فطرها الله – سبحانه – على قبح الكذب وعقوبة الكذاب .
والنمل من أحرص الحيوانات ، ويضرب بحرصه المثل ، ويذكر أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء استحضر نملة ، وسألها : كم تأكل النملة من الطعام كل سنة ؟ فقالت : ثلاث حبات من الحنطة ، فأمر بإلقائها في قارورة ، وسد فم القارورة ، وجعل معها ثلاث حبات حنطة ، وتركها سنة بعد ما قالت : ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة ، فوجد حبة ونصف حبة ، فقال : أين زعمك ؟ أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات .
فقالت : نعم ، ولكن لما رأيتك مشغولاً بمصالح بني جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة ، فاقتصرت على نصف القوت ، واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي ، فعجب سليمان من شدة حرصها ، وهذا من أعجب الهداية والعطية .
ومن حرصها أنها تكدّ طول الصيف ، وتجمع للشتاء علماً منها بإعواز الطلب في الشتاء ، وتَعَذّرِ الكسب فيه ، وهي على ضعفها شديدة القوى ، فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها ، وتجره إلى بيتها .
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أن رائداً يطلب الرزق ، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات ، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها دون صواحباتها .
ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل لا يسقط في عسل أو نحوه ، فإنه يحفر حفيرة ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيراً ، ويملؤه ماء ، ثم يضع فيه ذلك الشيء ، فيأتي الذي يطيف به فلا يقدر عليه ، فيتسلق في الحائط ، ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء ، فتلقي نفسها عليه ، وجربنا نحن ذلك .
وأحمى صانع مرة طوقاً بالنار ورماه على الأرض ليبرد . واتفق أن اشتمل الطوق على نمل ، فتوجه في الجهات ليخرج ، فلحقه وهج النار ، فلزم المركز ووسط الطوق ، وكان ذلك مركزاً له ، وهو أبعد مكان من المحيط " . (7)
النمل الأبيض غذاؤه ومساكنه :
يحدثنا الأستاذ يوسف عز الدين : عما كشف العلم من أسرار هذا الكائن : " ومن الغرائز التي وهبها الله لمثل هذه الكائنات الضئيلة ما هو مذهل ، يجعل كل ذي عقل من البشر يخرّ ساجداً للخالق العظيم .
على سبيل المثال ما نراه في مستعمرة نوع من الحشرات نطلق عليه اسم ( النمل الأبيض ) ، تعيش هذه الحشرات أيضاً في مستعمرات ، إذا زاد أفراد المستعمرة عن الحد المعقول بالنسبة لكمية الغذاء المتاحة ، فإنّ هذه الحشرات تدرك هذه الحقيقة عن طريق الغريزة ، فتبدأ الأفراد في التهام عدد كبير من البيض ، وبذلك يسهم في حلّ مشكلة زيادة أفراد المستعمرة ومشكلة الغذاء ، إذ أن التهام البيض يعتبر تغذية ، وفي الوقت نفسه يقلل من عدد الذرية .
إنّ هذه الحشرات لا تدرك لماذا تفعل ذلك ، ولكنّها النفحة الإلهية التي تلهمها لعمل ما لا يمكن أن تدركه من الأشياء التي تعود عليها بالفائدة وتجنبها الفناء .
هذه الحشرات نفسها تتغذى على الأخشاب وتلتهمها بشراهة ، إذ في بعض الأماكن الموبوءة بها قد يتناول أفراد الأسرة طعامهم على منضدة الطعام ، ثم يذهبون في الصباح لتناول إفطارهم ، فيجدون تلك المنضدة قد تقوضت أركانها ، وانهارت في ليلة واحدة .
وفي بعض جهات استراليا الموبوءة بتلك الحشرات المدمرة قد يسأل أحد السائحين وهو ناظر من نافذة القطار عن اسم القرية التي رآها على مدى البصر ، فيعتريه الذهول عندما يخبرونه أن تلك القرية لا تضم آدميين ، ولكنها المساكن التي أقامها النمل الأبيض ليعيش بها .
هذه المساكن ترتفع عن سطح الأرض عدة أمتار وتصنعها الحشرات من مادة غريبة ، هي خليط من لعابها وبعض المواد الأخرى ، وهي أقوى من الإسمنت المسلح ، ولا يمكن أن تخترقها الحشرات أو يتسرب إليها الماء من خلال جدرانها ، وبداخلها أنفاق متشعبة يعيش فيها النمل الأبيض .
وتستخدم هذه الحشرات للتخابر عن بعد نوعاً من الشيفرة تشبه شيفرة التلغراف ، إذ تدق على جدران النفق برأسها عدة دقات فيفهم باقي النمل ما تريد عن طريق تلك الدقات الشفرية ، تفعل ذلك دون أن تدري ماذا تفعل ، إذ إنها تفعلها عن طريق الإلهام المسمى الغريزة .
ولقد احتار العلماء فترة طويلة من الزمن في تفسير إمكان حياة مثل هذه الحشرات عن طريق الغذاء على الأخشاب ، والخشب لا يحتوي على أية مواد عضوية قابلة للهضم ، وأخيراً اكتشفوا السر .
لقد وجدوا في داخل الجهاز الهضمي لأفراد هذه الحشرات حيوانات دقيقة أولية يتكون جسمها من خلية واحدة ، وهذه الحيوانات الأولية تفرز أجسامها إفرازات تحول الخشب إلى مواد غذائية قابلة للهضم هي التي تغذي النمل الأبيض .
ومن العجيب أنّه لم يحدث إطلاقاً أن اكتشفت نملة بيضاء واحدة تخلو أمعاؤها من هذه الحيوانات الأولية ، ولو لم توجد هذه الحيوانات داخل أمعاء النمل الأبيض منذ بدء خلقها لما أمكنها الحياة ، ولانقرضت منذ أول جيل من أجيالها ، هل من الممكن أن يحدث هذا عن طريق المصادفة أم هو شيء مقدر مدبر مرسوم ؟ " .
النمل يربي المواشي ويفلح الأرض :
ومن عجائب النمل ما ذكره الدكتور يوسف عز الدين ، فقد ذكر أن النمل استأنس مئات من الأجناس من الحيوانات الأدنى منه شأناً ، بينما لم يستأنس الإنسان سوى نحو عشرين من الحيوانات الوحشية التي سخرها لمنفعته ومتعته ، ولقد عرف النمل الزرع والرعي عن طريق الغريزة .
إنَّ حشرات المن التي يطلق عليها أحياناً ( قمل النبات ) التي نراها على أوراق بعض النبات يرعاها النمل ليستفيد منها . ففي الربيع الباكر يرسل النمل الرسل لتجمع له بيض هذا المن ، فإذا جاؤوا به وضعوه في مستعمراتهم حيث يضعون بيضهم ، ويهتمون ببيض هذه الحشرات كما يهتمون ببيضهم ، فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار أطعموها وأكرموها ، وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يدر سائلاً حلواً كالعسل كما تدر البقرة اللبن ، ويتولى النمل حلب هذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها أبقار .
ولا يعتني النمل بتربية ((المواشي)) هذه وحدها ، بل يعتني كذلك بالزرع وفلاحة الأرض ، لقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الأرض قد نما بها أرز قصير من نوع نصف بري ، كانت مساحة القطعة خمسة أقدام طولاً في ثلاثة عرضاً ، وكان طول الأرز نحو ستة ((سنتيمترات)) ، ويتراءى للناظر إلى هذه البقعة من الأرض أنّ أحداً لا بد يعتني بها ، فالطينة حول الجذور كانت مشققة ، والأعشاب الغريبة كانت مستأصلة ، والغريب أنّه لم يكن على مقربة من هذا المكان عود آخر من الأرز ، فهذا الأرز لم ينم من تلقاء نفسه ، وإنّما زرعه زارع .
ولوحظ أن طوائف النمل تأتي إلى هذا المزروع وتذهب عنه ، فانبطح العالم على الأرض يلاحظ ما يصنعه ، ولم يلبث أن عرف أنّ هذا النمل هو القائم بزراعة الأرز في تلك البقعة من الأرض ، وأنه اتخذ من زراعتها مهنة له ، تشغل كل وقته ، فبعضه كان يشق الأرض ويحرثها ، وبعض آخر كان يزيل الأعشاب الضارة ، فإذا ظهر عود من عشب غريب قام إليه بعض النمل ، فيقضمونه ، ثم يحملونه بعيداً عن المزرعة .
نما الأرز حتى بلغ طوله ستين سنتيمتراً ، وكانت حبوب الأرز قد نضجت ، فلما بدأ موسم الحصاد شاهد صفاً من شغالة النمل لا ينقطع متجهاً نحو العيدان ، فيتسلقها إلى أن يصل إلى حبوب الأرز ، فتنزع كل شغالة من النمل حبة من تلك الحبوب ، وتهبط بها سريعاً إلى الأرض ، ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض .
بل الأعجب من ذلك أنّ طائفة من النّمل كانت تتسلق الأعواد ، فتلتقط الحب ، ثم تلقي به ، بينما طائفة أخرى تتلقاه ، وتذهب به إلى المخازن ..
ويعيش هذا النوع من النمل عيشة مدنية في بيوت كبيوتنا ذات شقق وطبقات ، أجزاء منها تحت الأرض ، وأجزاء فوق الأرض ، في هذه المدن نجد الخدم والعبيد .
بل الأعجب من ذلك نجد الممرضات اللاتي تعني بالمرضى ليلاً ونهاراً ، ونجد منها من يرفع جثث من يموت من النمل ....
يفعل ذلك النوع من النمل كلّ هذا بدون تفكير ، إذ يتم بالغريزة التي أودعها الله في أجسامهم الصغيرة .
5- هداية الهدهد وعجائب صنع الله فيه
ويحدثنا ابن القيم بأسلوبه السهل الأخاذ عن نوع آخر من مخلوقات الله التي لها في كتاب الله ذِكْر ، ألا وهو الهدهد ، متحدثاً عن هداية الله له فيقول :
" وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض ، لا يراه غيره ، ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أنه قال لنبي الله سليمان ، وقد فقده وتوعده ، فلما جاء بَدَره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة ، وخاطبه خطاباً هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه ، فقال : ( أحطت بما لم تُحط به ) [ النمل : 22 ] ، وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت به ، وهو خبر عظيم له شأن ، فلذلك قال : ( وجئتك من سبإ بنبإٍ يقينٍ ) [ النمل : 22 ] ، والنبأ هو الخبر الذي له شأن ، والنفوس متطلعة إلى معرفته ، ثم وصفه بأنه نبأ يقين ، لا شك فيه ولا ريب ، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر ، وأوجبت له التشوق التام إلى سماعه ومعرفته ، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج .
ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفاً مؤكداً بأدلة التأكيد ، فقال : ( إنّي وجدت امرأةً تملكهم ) [ النمل : 23 ] ، ثم أخبر عن شأن تلك الملكة ، وأنها من أجلّ الملوك بحث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك ، ثم زاد في عظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه ، وأنه عرش عظيم ، ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم ، وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله ، فقال : ( وجدتُّها وقومها يسجدون للشَّمس من دون الله ) [ النمل : 24 ] .
وحذف أداة العطف من هذه الجملة ، وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها ، إيذاناً بأنها هي المقصودة ، وما قبلها توطئة لها ، ثم أخبر عن المغوي لهم ، الحامل لهم على ذلك ، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم ، حتى صدهم عن السبيل المستقيم ، وهو السجود لله وحده ، ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له .
ثم ذكر من أفعاله – سبحانه – إخراج الخبء في السماوات والأرض ، وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع ما ينزل من السماء ، وما يخرج من الأرض ، وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض .
قال صاحب الكشاف : وفي إخراج الخبء إمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض ، وذل بإلهام مَنْ يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه ، ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من المعلم في روائه ومنطقه وشمائله ، فما عمل آدمي عملاً إلا ألقى عليه رداء عمله " .
6- هداية الحمام وعجائب صنع الله فيه
أما حديث ابن القيم عن الحمام وبدائع صنع الله فيه ، وعجيب هدايته إلى ما هداه إليه فحديث طويل ممتع ، يدل على أن التفكير في خلق الله منهج أخ
وكان العلماء ولا يزالون يبينون عجائب صنع الله في خلقه ، ويعظون أنفسهم بذلك ، كما يعظون غيرهم ، وسننقل طرفاً مما توصل إليه العلماء في هذا المجال في القديم والحديث .
وأحب أن يضع القارئ نصب عينيه وهو يقرأ هذه المقتطفات قول موسى لفرعون : ( قال ربُّنا الذي أعطى كلَّ شيءٍ خلقه ُثمَّ هدى ) [ طه : 50 ] . فالله أعطى كل شيء خلقه الذي يناسبه ، وهداه لما فيه صلاحه .. ، وسنرى نماذج من هذا الإعطاء وتلك الهداية .
1- تكون الأجسام من الخلايا وانقسامها
أ- مم تتكون أجسام الأحياء وكيف ؟
يقول باحث معاصر هو الدكتور يوسف عز الدين مجلياً هذا الموضوع : " معظم الحيوانات والنباتات تتكون من عدد هائل من تلك الوحدات الدقيقة الحجم التي نسميها (الخلايا) ، كما يتكون المبنى من مجموعة من الأحجار المرصوصة " .
ب- لماذا تنقسم الخلايا دائماً ؟
ويتابع الدكتور يوسف عز الدين كلامه مبيناً السر في انقسام الخلايا فيقول : " وخلايا أجسامنا وأجسام غيرنا من الحيوانات دائمة الانقسام ، وذلك الانقسام قد يكون لنمو الجسم ، أو لتعويض ما يفقد أو يموت من الخلايا لأسباب عديدة . وكلّ خلية من هذه الخلايا تتكون أساساً من مادة عجيبة نطلق عليها اسم (( البروتوبلازم )) .
وتوجد بداخل كل خلية محتويات عديدة ذات وظائف محددة ، ومن هذه المحتويات أجسام دقيقة تحمل عوامل وراثية هي التي نطلق عليها اسم ((الكروموسومات)) .
وعدد هذه ((الكروموسومات)) ثابت في خلايا كلّ نوع من أنواع الحيوانات والنباتات المختلفة ، فعددها في خلايا القط – مثلاً – يختلف عن عددها في خلايا الكلب أو الفيل أو نبات الجزر أو الفول .
وفي كل خليّة من الخلايا التي يتكون منها جسم الإنسان يوجد ستة وأربعون من هذه (الكروموسومات) .
وعندما تنقسم الخلية إلى خليتين داخل أجسامنا فإنّ كلّ خلية جديدة لا بدّ أن تحتوي على العدد نفسه من (الكروموسومات) ، وهي ستة وأربعون ، إذ لو اختل هذا العدد لما أصبح الإنسان إنساناً . والخلايا كما ذكرت دائمة الانقسام ، يحدث هذا في جميع ساعات اليوم حتى في أثناء نومنا ، ونحن حتى الآن لا ندرك حقيقة القوى المهيمنة على هذه العملية المذهلة : عملية انقسام الخلايا ، بل يكتفي العلم بوصف الخطوات العملية التي يمكن ملاحظتها تحت عدسات (الميكروسكوب) العادي أو عن طريق (الميكروسكوب الإلكتروني) الذي يكبر الأشياء تكبيراً أكثر بكثير من تكبير الميكروسكوب العادي " .
جـ - لماذا تختلف الخلايا التناسلية عن غيرها ؟
وذكر الدكتور يوسف : " أن جميع الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام في جسم الإنسان لا بدّ أن تحتوي على ستة وأربعين (كروموسوماً) فيما عدا نوعين من الخلايا ، هما الخلايا التناسلية ، أي الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى ، وعندما تنقسم خلايا الأنسجة لتكوين هذه الخلايا التناسلية فإنها تنتج خلايا لا تحتوي على الستة والأربعين (كروموسوماً) ، بل تحتوي على نصف هذا العدد ، أي يصبح في كل خلية تناسلية ذكرية أو أنثوية ثلاثة وعشرون (كروموسوماً) فقط " .
ثم بين لماذا يحدث ذلك ، فقال : " يحدث هذا لحكمة بالغة ولهدف عظيم ، إذ إنّ الخلية الذكرية (الحيوان المنوي) لا بدّ أن تندمج مع الخلية الأنثوية (البويضة) لتكوين أول خلية في جسم الجنين ، وهي التي نطلق عليها اسم (الخلية الملقحة) ، حيث ينضم الثلاثة والعشرون (كروموسوماً) التي في الخلية الذكرية إلى الثلاثة والعشرين (كروموسوماً) التي في الخلية الأنثوية لكي يعود عدد (الكروموسومات) في الخلية الجديدة إلى العدد الأصلي ، وهو ستة وأربعون (كروموسوماً) .
وهذه الخلية الملقحة التي أصبحت تحتوي على ستة وأربعين (كروموسوماً) توالي انقسامها ، فتصبح خليتين ، ثم أربع خلايا ، ثم ثماني خلايا وهكذا ، حتى يتم تكوين الجنين الذي يخرج من رحم أمه ، ويستمر نموه عن طريق انقسام الخلايا حتى يصبح إنساناً كامل النمو في كلّ خلية من خلاياه ستة وأربعون (كروموسوماً) كما هو الحال في خلايا جسد أبيه وأمه وأجداده وجميع أفراد الجنس البشري " .
" إنَّ اختزال عدد (الكروموسومات) إلى النصف عند تكوين الخلايا التناسلية بالذات لكي تندمج فيعود العدد الأصلي (للكروموسومات) في الخلايا لا يمكن مطلقاً أن يكون نتيجة مصادفة عمياء ، بل لا بدّ أن يكون نتيجة تقدير دقيق من قوة عليا تعلم ماذا تفعل .
وهي في الوقت نفسه لا يمكن أن تخضع للتجربة واحتمال الخطأ ، إذ لو حدث خطأ مرة واحدة عند بدء الخلق لقضي على الكائن الحي قبل تكوين الجيل الثاني . أي أنّ هذا الترتيب لا بد أن يكون قد تم منذ تكوين أول جنين ظهر في الوجود ، ألا يكفي هذا وحده دليلاً على وجود قوة عليا مدبرة مقدرة حكيمة ؟ " .
د- لماذا لا تنقسم خلايا المخ ؟
أما النوع الآخر من الخلايا التي تخالف بقية خلايا الجسم فهي خلايا الدماغ ، وهي تخالف بقية الخلايا في كونها لا تنقسم ، وعن السر في عدم انقسامها يقول الدكتور يوسف عز الدين :
" لا يمكن أن يكون عن طريق التجربة واحتمال الخطأ والصواب أن الخلايا الوحيدة التي لا تنقسم هي الخلايا العصبية التي يتكون منها المخ وباقي الجهاز العصبي ، لو انقسمت كما يحدث لباقي الخلايا لحدثت كارثة مروعة ، إنّ خلايا المخ في هذه الحالة لن يمكنها الاحتفاظ بشخصية الإنسان ، وسوف تتلاشى جميع معالم الذاكرة في خلال ساعات قلائل .
إنَّ عدد خلايا المخ عند ولادة الإنسان أو أي حيوان آخر لا تزيد عليها خلية واحدة حتى وفاته ، بينما نجد أنّ الكرات الدموية الحمراء التي تسبح في الدم ، ما هي إلا خلايا تموت ، ويحلّ محلها خلايا جديدة كلّ نحو مائة يوم . وتتكون الخلايا الحمراء (الكرات الحمراء) في نخاع العظام ، ثم تنطلق لكي تسبح في تيار الدم ؛ لتحل محل الخلايا التي استهلكت " .
هـ- السر في تفاوت قوة عضلات الجسم :
ويتحدث الدكتور عن هذا الموضوع فيقول : " أقوى عضلات في جسم الإنسان أو الحيوانات الثديية هي عضلات الرحم عند الأنثى ، تلك هي التي تدفع الجنين ليخرج من بطن أمه ، إذ لو لم تكن هذه العضلات بهذه القوة منذ بدء خلق الإنسان أو غيره من الحيوانات لما خرج إلى الوجود أول جنين من بطن أمه .
وتلي عضلات الرحم في القوة عضلات القلب والفكين ، فعضلات القلب لا بد أن تكون قوية لتصمد للعمل ليلاً ونهاراً لدفع الدم إلى الأوعية الدموية لمدة قد تطول لأكثر من مائة عام ، وكذلك الحال في عضلات الفكين التي ينبغي أن تظلّ قادرة على دفع الأسنان لينطبق بعضها على بعض لكي تمضغ أطناناً من الطعام طوال حياة الإنسان " .
2- مقاومة الأحياء لعوامل الفناء
ويقرر الدكتور يوسف : " وجود صفة مهمة تشترك فيها جميع الكائنات الحية من أدناها إلى أرقاها ، هذه الصفة هي مقاومة عوامل الفناء ، إذ إنّ خالق جميع هذه الكائنات يريد لها البقاء .
إنَّ ( فيروس الأنفلونزا ) يتشكل من آنٍ لآخر بأشكال مختلفة ؛ لتصعب مقاومته والقضاء عليه ، والحشرات مع توالي الأجيال تكتسب مناعة ضدّ المبيدات الكيميائية ؛ لكي تقاوم عوامل الفناء وانقراض الجنس .
بل في الإنسان نفسه لوحظ كثرة الإنجاب في فترات الحروب ، كما لوحظ أنّ أية سيدة تواظب على تناول حبوب منع الحمل مدة طويلة ثم تسهو عن تناولها بعض الأيام – فإنّ النتيجة في معظم الأحيان تكون إنجاب عدة توائم ؛ لتعويض النقص في الذرية الذي حدث في أثناء فترة الامتناع عن الحمل . وإذا استأصل الإنسان إحدى الكليتين لسبب من الأسباب فإنّ الكلية الباقية يزداد حجمها وتؤدي عمل الكليتين ؛ وكأن في الجسم عقلاً يدرك به ما حدث من نقص فيسرع لتعويضه .
الله وحده هو الذي زود هذه المخلوقات بهذه القدرة العجيبة على التوازن حتى لا تنقرض وتتعرض للفناء ، كما زود العديد من الحيوانات بوسائل للدفاع عن أنفسها لا يختلف في ذلك الإنسان عن العقرب أو الثعبان أو أم أربعة وأربعين أو غيرها .
لا يمكن أن يكون هذا المبدأ أو القانون الذي يسود جميع الكائنات الحية من صنع مصادفة عمياء تتخبط في الظلام ، إذ إنّ المصادفة لا يمكن أن تتخذ مظهر قانون عام تخضع له جميع الكائنات " .
3- هداية النحل وشيء من عجائب صنع الله فيه
ويحدثنا ابن القيم (1) رحمه الله تعالى عن بدائع صنع الله في خلقه ، مبيناً هداية الله للنحل في أمور معاشه : " وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب وذلك أن لها أميراً ومدبراً ، وهو اليعسوب ، وهو أكبر جسماً من جميع النحل ، وأحسن لوناً وشكلاً .
وإناث النحل تلد في إقبال الربيع (2) ، وأكثر أولادها يكنّ إناثاً ، وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها ، بل إما أن تطرده ، وإما أن تقتله ، إلا طائفة يسيرة منها ، وذلك أن الذكور منها لا تعمل شيئاً ولا تكسب .
والنحل تقسم فرقاً ، فمنها فرقة تلزم الملك ، ولا تفارقه ، ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه ، والشمع هو ثفل العسل ، وفيه حلاوة كحلاوة التين ، وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل ، فينظفه النحل ، ويصفيه ، ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها ، وفرقة تبني البيوت ، وفرقة تسقي الماء , وتحمله على متونها ، وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل ، وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعتها وقتلتها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال ، وتعديهن ببطالتها ومهانتها .
وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته ، فيُبنى له بيت مربع يشبه السرير والتخت ، فيجلس عليه ، ويستدير حوله طائفة من النحل يشبه الأمراء ، والخدم والخواص ، لا يفارقنه ، ويجعل النحل بين يديه شيئاً يشبه الحوض يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه ، ويملأ منه الحوض ، ويكون ذلك طعاماً للملك وخواصه .
ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال ، وتبني بيوتها مسدسة متساوية الأضلاع ، كأنها قرأت كتاب إقليدس ، حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها ؛ لأنّ المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة ، والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلاً مستديراً كاستدارة الرحى ، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل ، ويشد بعضه بعضاً ، حتى يصير طبقاً واحداً محكماً ، لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر .
فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن صنع مثله ، فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين : إحداهما : أن لا تكون زواياها ضيقة حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلاً . والثانية : أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض ، وامتلأت العرصة منها فلا يبقى منها ضائعاً ، ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط ؛ فإن المثلثات والمربعات ، وإن أمكن امتلاء العرصة منها إلا أن زواياها ضيقة ، وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العرصة منها ، بل يبقى فيما بينها فروج خالية ضائعة ، وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين ، فهداها – سبحانه – إلى بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطرة ولا آلة ، ولا مثال يحتذى عليه ، وأصنع بني آدم لا يقدر على بناء بيت المسدس إلا بالآلات الكبيرة .
فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها وتأتيها ذللاً لا تستعصي عليها ، ولا تضل عنها ، وأن تجتني أطيب ما في المراعي وألطفه ، وأن تعود إلى بيوتها الخالية ، فتصب فيها شراباً مختلفاً ألوانه ، فيه شفاء للناس ، إن في ذلك لآيات لقول يتفكرون .
فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصاً تسيح سهلاً وجبلاً ، فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار وورق الأشجار ، فترجع بطاناً .
وجعل – سبحانه – في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جنته ، فتعيده حلاوة ونضجاً ، ثم تمجه في البيوت ، حتى إذا امتلأت ختمتها ، وسدت رؤوسها بالشمع المصفى ، فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته ، فاتخذت فيه بيوتاً ، وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى ، فإذا برد الهواء ، وأخلف المرعى ، وحيل بينها وبين الكسب ، لزمت بيوتها ، واغتذت بما ادخرته من العسل ، وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة وتسيح في المراتع ، وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل ، فإذا أمست رجعت إلى بيوتها .
وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادراً إذا اشتهى التنزه ، فيخرج ، ومعه أمراء النحل والخدم ، فيطوفُ في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ، ثم يعود إلى مكانه .
ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه ، فيغضب ويخرج من الخلية ، ويتباعد عنها ، ويتبعه جميع النحل ، وتبقى الخلية خالية .
فإذا رأى صاحبها ذلك ، وخاف أن يأخذ النحل ، ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لاسترجاعه وطلب رضاه ، فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل ، فيعرفه باجتماع النحل إليه ، فإنها لا تفارقه ، وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقوداً ، وهو إذا خرج غضباً جلس على مكان مرتفع من الشجرة ، وطافت به النحل ، وانضمت إليه ، حتى يصير كالكرة ، فيأخذ صاحب النحل رمحاً أو قصبة طويلة ، ويشد على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر النظيف ، ويدنيه إلى محل الملك ، ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شيء من آلات الطرب فيحركه ، وقد أدنى إليه ذلك الحشيش ، فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك ، فإذا رضي غضبه طفر ووقع على الضغث ، وتبعه خدمه وسائر النحل ، فيحمله صاحبه إلى الخلية ، فينزل ويدخلها هو وجنوده ، ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام .
ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة ، ولا تدين لطاعتها ، والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة ، وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخلايا ، وإذا فعلت ذلك جاد العسل ، وتجتهد أن تقتل ما تريد قتله خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته .
ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم ، وبينها وبين العسالة حرب ، فهي تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها ، وتقصد هلاكها ، والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها ، فإذا هجمت عليها في بيوتها حاولتها وألجأتها إلى أبواب البيوت فتتلطخ بالعسل ، فلا تقدر على الطيران ، ولا يفلت منها إلا كلّ طويل العمر ، فإذا انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى ، فحملتها وألقتها خارج الخلية .
وفي النحل كرام عمال لها سعي وهمة واجتهاد ، وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة ، فالكرام دائماً تطردها وتنفيها عن الخلية ، ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها .
والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ، ولذلك لا تلقي زبلها إلا حين تطير ، وتكره النتن والروائح الخبيثة ، وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهاداً من الكبار ، وأقل لسعاً وأجود عسلاً ، ولسعها إذا لسعت أقل ضرراً من لسع الكبار .
ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه فقد خصت من وحي الرب تعالى وهدايته بما لم يشركها فيه غيرها ، وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام كان أكثر الحيوان له أعداء ؛ وكان أعداؤه من أقل الحيوان منفعة وبركة ، هذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم " . (3)
الباحثون المعاصرون يتحدثون عن عالم النحل (4)
تقدم العلم اليوم ، وبتقدمه تعرفنا على كثير من عجائب الخلق وأسرار الكون ، لقد أكد لنا العلماء ما عرفناه من قبل أن من أن عالم النحل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : النحلة الملكة ، والنحلة الذكر ، والنحلة الشغالة .
أما ملكة النحل فهي أم الخلية كلها ، وجميع النحل في الخلية أبناؤها ، ويكفي أن تعلم أن الملكة تضع في كل يوم تطلع فيها الشمس ما بين (1500) بيضة إلى (2000) بيضة ، بل يزيد العدد إلى (3500) بيضة . ويستمر هذا على امتداد موسم التكاثر الذي يبدأ من إقبال الربيع ، وينتهي بانتهاء الصيف .
وما هذا العدد الهائل من البيض إلا لمواجهة النقص المستمر الذي يصيب خلية النحل ، فالنحلة عمرها قصير ، فهو يتراوح بين خمسة أسابيع وسبعة أسابيع ، ولذلك فإنّ الخلية تحتاج إلى أجيال جديدة ترفد الخلية بأعداد كبيرة تواجه النقص الذي يلحق بها ، كي تستمرّ الخلية في القيام بالواجبات التي يحتاج إليها عالم النحل ، وحتى تستطيع الدفاع عن نفسها في مواجهة الأعداء والأخطار ، ولولا ذلك لا نقرضت الخلية وبادت .
ومن بديع صنع الله في ملكة النحل أنها تضع بيضها في البيوت التي تبنيها الشغالة بمقاسات مختلفة ، فالمقاس الكير يعده النحل لملكة المستقبل ، والبيضة التي تضعها الملكة فيه تكون ملكة ، والبيضة التي تضعها الملكة في البيت الأصغر حجماً ومقاسه ربع إنش تصبح نحلة ذكراً ، أما البيضة التي تضعها في البيت الصغير ومقاسه خمس إنش فتنتج نحلة شغالة ، بقي أن نعلم أن الملكة تضع مع بيضة النحلة الشغالة ثلاثة إلى أربعة حيوانات منوية لإخصابها ، فتكون نحلة شغالة ، بينما تضع ، في بيت النحلة الذكر بيضة غير مخصبة .
ومن عجيب صنع الله في النحلة الملكة أنها لا تُلِّقحُ إلا في الهواء في أثناء طيرانها ، ولذلك سّر عجيب ، فالنحلة الذكر لا يمكنها تلقيح الملكة وهي رابضة على الأرض ، ذلك أن عضو التذكير عندها كامن ، ولا يمكن ظهوره إلا إذا حلقت في الفضاء ، وعند ذلك تمتلئ أكياس موجودة في النحلة الذكر بالهواء ، فتنتفخ في أثناء الطيران ، ويؤدي انتفاخها إلى الضغط على عضو التذكير ، فيخرج من مكمنه .
ومن عجائب صنع الله في الملكة العذراء قدرتها على دعوة الذكر لتلقيحها ، وذلك بأصوات تصدرها تدعو بها الذكور إليها ، وتخرج من خليتها حائمة حولها مصدرة تلك الأصوات ، وتستقبل الذكور هذه الدعوة لا في الخلية وحدها ، بل في جميع الخلايا المجاورة ، وتنطلق أسراب الذكور خلف الملكة ، وهي تغذ السير منطلقة في الفضاء الرحب ، ويفوز بتلقيحها أقوى الذكور وأشدها وأسرعها ، ولكنه يفقد حياته بعد ذلك ، ذلك أنه بعد تلقيحه الملكة يفقد عضو تذكيره ، إذ يبقى عضوه فيها مما يسبب له نزيفاً يفقده حياته .
ويسأل القارئ عن كيفية سماع الذكور لدعوة الملكة ، والجواب : أن الله زود كل نحلة بقرني استشعار ، وهذان القرنان يتألفان من حلقات متصل بعضها ببعض ، عليها عدد كبير من الثقوب ، ويبلغ عدد الحلقات في الذكر اثنتا عشرة حلقة ، في حين أن عددها في الشغالة أو الملكة إحدى عشرة حلقة .
وتبلغ عدد ثقوب الحواس الكائنة على قرن الاستشعار عند الذكر (2800) ثقبٍ ، وفي الشغالة (2400) ، وفي الملكة (1600) .
والحقيقة أن قرني الاستشعار في النحلة بمنزلة هوائي الإذاعة يستخدمه لالتقاط الأصوات الصادرة من الملكة ، ولغير ذلك من الأصوات ، كما تستخدمه في الشم والسمع واللمس .
وإذا فقدت النحلة الشغالة أو الذكر أو الملكة قرني الاستشعار فإنها لا تستطيع أن تقوم بدورها ، ففيه يتركز معظم حواسها : السمع والشم واللمس كما سبق .
وتكوين النحلة الذكر يتناسب مع المهمة التي خلق من أجلها ، فهو كبير قوي ، يأكل كثيراً ، ولا يعمل شيئاً ، فلا يجمع الرحيق ، ولا يصنعه ، ولا يبني ، ولا يحرس ، حتى طعامه ، تضعه النحلة الشغالة في فمه ، كل ما يستطيع القيام به هو تلقيح الملكة ، ولذا فإن النحلة الشغالة بعد انتهاء مهمته تمتنع عن إمداده بالغذاء ، وأكثر من هذا تهاجم الشغالة الذكور فتقتلها أو تطردها .
بقي أن نعلم أن عدد الذكور من النحل قليل بالنسبة لتعداد النحل ، فلا يتجاوز عددها في الخلية الواحدة المائتين .
أما النحلة الشغالة فإنها تكون العدد الأكثر في الخلية ، كما أنها العنصر الفعال فيها ، وهي التي تقوم بالأعمال المختلفة ، والمهمات الصعبة .
فهي التي تجني الرحيق ، وتجمع غبار الطلع ، وتصنع العسل ، وتمدّ الملكة بغذائها الخاص ، وتبني الأقراص التي يحفظ فيها العسل ، وتربي فيها الأجيال الجديدة من النحل ، وتحرس الخلية ، وتقوم بتنظيفها ، والمحافظة عليها ، بل تقوم بتهويتها وتدفئتها .
والمهمات في الخلية موزعة في تخصصات وهذه التخصصات ترتبط بعمر النحلة ، فلكل سن من النحل عمل يقوم به ، وكلما امتد العمر بالنحلة فإنها تتحول إلى عمل آخر ، وبذلك تقوم النحلة بعد أن تستكمل عمرها بالمرور على كل الأعمال والمهمات التي تحتاج إليها الخلية ، ويلاحظ أن النحلة تبدأ بالأعمال السهلة التي لا تحتاج إلى جهد كبير ، وتنتهي إلى أشق الأعمال وأصعبها وهي الجولان في الحقول ، وجني الرحيق وغبار الطلع والماء ، ثم صنع العسل وتخزينه ، ونلاحظ أيضاً أنها تتدرج في الوظائف بحسب تكامل الخصائص التي يهبها الله إياها ، فكل مهمة تصير إليها وتعمل فيها تتواءم مع تكامل أجهزتها التي تمكنها من القيام بالدور الجديد والمهمة الجديدة .
فالنحلة الشغالة في يومها الأول والثاني تقوم بمهمة تنظيف البيوت التي خرجت منها أجيال النحل التي تكامل خلقها ، فتنظف هذه البيوت ، وتعدها لأجيال أخرى ، ولا تضع الملكة البيض في هذه البيوت إلا بعد أن تتفحصها وتجدها نظيفة تماماً .
وفي يومها الثالث والرابع تقوم بدور الحاضنة ليرقات النحل الشغالة والذكور التي يزيد عمرها على ثلاثة أيام ، فتقدم لها ما يسميه العلماء ( بخبز النحل ) وهو مزيج من العسل وحبوب اللقاح ، تأخذه مما خزنته النحل في العيون السداسية .
وبعد اليوم الخامس حتى اليوم الثاني عشر من عمر النحلة تقوم بتغذية النحلة الملكة بالغذاء الملكي طيلة عمرها ، كما تمدّ الغذاء الفاخر صغيرات الشغالة والذكور في يومهن الأول والثاني والثالث ، والنحل يقوم بهذه المهمة في هذه السن (5-12) لنمو غدد خاصة في هذه الفترة في جانبي البلعوم ، تتمكن بها النحل من صناعة الغذاء الملكي .
وبعد اليوم الثاني عشر تتمكن النحلة من الطيران ، ولكنها لا تذهب بعيداً ، كل ما تفعله أن تتعلم وتتمرن ، ومهمتها الرئيسية من اليوم الثاني عشر إلى اليوم الثامن عشر هو بناء الأقراص الشمعية التي تعد لتخزين العسل ، وتربية أجيال النحل الجديدة .
والسبب في تخصصها بهذا الدور في هذه السن هو نمو أربعة أزواج من الغدد الموجودة على حلقات البطن ، ومن هذا الشمع تقوم النحلة باستخدام فكيها في هذه السن ببناء تلك البيوت التي بلغت الغاية في الدقة والإتقان بأبعاد محددة وأشكال هندسية في غاية الروعة والتنظيم .
وفي اليوم التاسع عشر واليوم العشرين تقوم النحلة بتنظيف الخلية وحراستها ، وبعد اليوم العشرين تقوم النحلة بالانطلاق إلى الحقول وجمع الرحيق وغبار الطلع وصنع العسل ، وجلب الماء إلى الخلية ، وهذه المرحلة الأخيرة تمثل الجزء الأكبر من عمر النحلة .
أجيال تذهب من النحل ، وأجيال تأتي ، ويترقى النحل في سلسلة متوالية من الأعمال تضمن القيام بالأعمال كلها باستمرار من غير أن تتخصص طائفة من النحل بعمل طيلة عمرها ، ولكن التخصص يأتي في كل مرحلة من مراحل العمر .
سبحان الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي خلق هذه الكائنات الصغيرة ، وعلمها أن تقوم بهذه الأعمـال بمثل هذه الدقة والإتقان ، إنه إبداع وإعجاز يدل على العليم الخبير .
ومن الإبداع الإلهي في النحلة هذا التكوين الذي أعطاه الله إياها ، فقد جعل لها الباري سبحانه معدتين ، إحداهما تستعملها لجمع المواد الأولية التي تستخلصها من رحيق الأزهار ، أو تحمل بها الماء ، وتنقله إلى الخلية ، والمعدة الأخرى مخصصة للطعام الذي تهضمه وتتغذى به .
ومن عجب أن النحلة إذ تجمع في معدتها الأولى ما تجنيه من الرحيق ، لا تكتفي بنقله ، ولكنها في أثناء حملها له وتوصيله للخلية تقوم بعملية أولية لتحويله إلى العسل ، وذلك بإفراز الخمائر اللازمة لتحقيق ذلك .
والنحلة تحتاج إلى غبار الطلع لأمور مختلفة في الخلية ، وقد زودها خالقها بتجويف خاص لخزن هذه الحبوب في الوجه الخارجي لساق الرجل الخلفية ، تسمى سلة الطلع ، وجعل لها على الوجه الداخلي لرسغ الرجل الخلفية ما يشبه الفرشاة تستعملها الشغالة في تمشيط غبار الطلع وتكتيله تمهيداً لجمعه في سلة الطلع .
ومن العجائب المذهلة التي اكتشفها العلماء في النحلة ، تلك الغدة التي في مؤخرة البطن ، وقد سماها العلماء ( غدة ناسانوف) ، وهذه الغدة تفرز رائحة خاصة ، ومن العجيب أن نحل كل خلية يتعارف على رائحة تميز نحلها عن غيره ، وتستطيع النحلة أن تعود إلى بيتها من مكان بعيد تهديها تلك الرائحة المميزة عن رائحة غيرها من النحل ، وبوابو الخلية وحراسها يعرفون النحلة التي تتبع الخلية عن طريق تلك الرائحة المميزة المنبعثة من النحلة .
والعجب أن النحل قادر على التعارف على رائحة جديدة عندما يحصل ما يستدعي ذلك ، فمثلاً عندما تخرج طائفة من النحل لتشكل خلية جديدة ، فإن الخلية الجديدة تتعارف على رائحة جديدة ، وعندما مزج العلماء بطريقة علمية طائفة من النحل مع طائفة أخرى وجدوا أن النحل بعـد دمجه تعارف على رائحة واحدة جديدة تميزه عن غيره .
ومن عجائب هداية النحل أنه يبني جدران البيوت السداسية من الشمع الخالص الذي لا ينفذ منه الهواء ، ولكنه عندما يغلق أبواب البيوت التي تحوي يرقات النحل يخلط الشمع بحبوب اللقاح ، وبهذا يتسرب الهواء من خلال حبوب اللقاح ، فتبقى اليرقات حيّة ، ولو لم يهدها ربها إلى ذلك لماتت اليرقات ، وزال النحل من فوق ظهر البسيطة .
وقد حدثنا ربنا فيما حدثنا عنه من آياته الباهرة التي تستدعي التأمل والتفكر إلى هدايته العجيبة للنحل ( وأوحى ربُّك إلى النَّحل أن اتَّخذي من الجبال بيوتاً ومن الشَّجر ومما يعرشون – ثُمَّ كلي من كل الثَّمرات فاسلكي سبل ربك ذُللاً يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ للنَّاس إنَّ في ذلك لآيةً لقومٍ يتفكرون )[النحل: 68-69] .
وقد اهتدى المسلمون للمنافع العظيمة التي في العسل ، ولكن الضالون عن هدى الله لم يكتشفوا ما فيه من المنافع إلا في هذه الأيام ، وقد اكتشف الباحثون حقائق مذهلة ، فوجدوا أن العسل غذاء ودواء ، وهو غذاء من نوع راق ، يحوي على خصائص لا تكاد توجد في غيره ، ووجدوا أنه علاج يكاد يصلح لجميع أنواع الأمراض ، ولا يزال العلم يكتشف في كل يوم في العسل نفعاً جديداً .
كيف يدل النحل بعضه بعضاً على مكان الغذاء ؟
مما لاحظه العلماء المعاصرون الطريقة التي يدل بها النحل بعضه بعضاً على مكان الغذاء ، يقول الدكتور يوسف عز الدين : " لو اكتشف أحد عمال النحل حقلاً أو كمية من النباتات تعتبر مصدراً للغذاء ، فإنّه يعود للمستعمرة ليخبر باقي العمال ، عن هذا الكنز الذي اكتشفه ، وذلك عن طريق طقوس رقص عجيبة تفعلها النحلة بطريقة غريزية دون أن تدري لماذا تفعل هذا .
إنها ترقص رقصات غريبة ذات مدلولات معينة ، إذ إن جسمها يصنع في أثناء الرقص زاوية تدل على زاوية الشمس ،وإذا كان الحقل الذي اكتشفه قريباً من المستعمرة فإنّ الرقصة في هذه الحالة تختلف عنها في حالة بُعد الحقل مسافة أطول .
ومن هذه الرقصات يفهم النحل أنّ حقلاً من البرسيم أو غيره من النباتات ذات الأزهار التي يحضر النحل غذاءه منها ، يقع على بعد معين ، والطريق إليه يقتضي السير بزاوية معينة بالنسبة لمكان الشمس .
فيؤدي بعض العمال الرقصة نفسها ، عند ذلك تطمئن النحلة التي اكتشفت الحقل إلى أنّ باقي النحل قد فهم ما تريد أن تقوله ، فيطير باقي الأفراد ، ويصلون مباشرة إلى ذلك الحقل لإحضار مزيد من الغذاء .
إنّ النحلة المكتشفة قد نقلت إلى النحل الذي في المستعمرة عدداً من المعلومات برقصتها ، ولو حاولنا نحن البشر أن نتوصل إلى ما توصل إليه النحل من فهم لهذه الطلاسم عن طريق رسم بياني لاستغرق منا وقتاً لا يقل عن ثلث ساعة إن كان لدينا إلمام كاف بالعلوم الرياضية ، ولكن النحل يفهم كلّ ذلك في الحال ، ويطير نحو الحقل في خط مستقيم ليحضر ما يلزمه من غذاء .
شيء مذهل لا يمكن تفسيره إلا إذا آمنا بوجود نفحة إلهية أودعها خالق الكون في هذه الكائنات الصغيرة التي لا تملك قدراً من العقل أو قدرة على التفكير تمكنها من القيام بما يلزمها " .
رؤية النحل ما لا نراه من الألوان
ويذكر لنا الدكتور يوسف أن من عجائب النحل رؤيته " لوناً لا نراه نحن البشر ، ولا يمكن أن نتصوره ، وهو اللون فوق البنفسجي الذي نراه نحن أسود ، فالنحل يرى الأشعة فوق البنفسجية " ، ثم يبين لنا الحكمة من وراء رؤية النحل لذلك اللون فيقول : " والحكمة في ذلك هي أن تلك الأشعة هي الوحيدة القادرة على اختراق السحاب .
والنحل قد يعيش في مناطق يكسوها السحاب معظم شهور السنة ، ورؤية الشمس ضرورية لمعرفة مكان الحقول التي بها الغذاء ، وهنا تكمن الحكمة في رؤية النحل لذلك اللون فوق البنفسجي ، فإنها بذلك يصبح في إمكانها رؤية الشمس من خلال السحب ، فلا يموت النحل جوعاً في حالة اختفاء الشمس خلف الغمام ، حقيقة مذهلة تدلّ على وجود خالق مدبر ومقدر يعلم ما يصنع ، إذ إن القدرة على رؤية ذلك اللون لا يمكن أن تكون قد اكتسبها النحل مع مرور الزمن ، بل لا بد أن تكون قد وجدت منذ أول لحظة خلق الله فيها النحل ، إذ لو لم توجد من أول الأمر ، لانقرض النحل في تلك المناطق منذ أمد بعيد " .
4- هداية النمل وعجائب صنع الله فيه
ويحدثنا ابن القيم عن نوع آخر من مخلوقات الله ، ويبين لنا هداية الله لها في معاشها فيقول :
" وهذا النمل من أهدى الحيوانات ، وهدايتها من أعجب شيء ، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها ، وإن بعدت عليها الطريق ، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلى بيوتها ، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان .
فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين ؛ لئلا ينبت فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة ، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوماً ذا شمس فخرجت به ، فنشرته على أبواب بيوتها ، ثم أعادته إليها ، ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها .
ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله – سبحانه – في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها : ( يا أيَّها النَّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) [ النمل : 18 ] ، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته ، ثم أتت بالاسم المبهم ، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة العموم ، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر ، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول ، وهو خشية أن يصيبهم معرّة الجيش ، فيحطمهم سليمان وجنوده ، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك ، وهذا من أعجب الهداية .
وتأمل كيف عظم الله – سبحانه – شأن النمل بقوله : ( وحشر لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطَّير فهم يوزعون ) [ النمل : 17 ] ، ثم قال : ( حتَّى إذا أتوا على واد النَّمل ) [ النمل : 18 ] ، فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي ، ودل على أن ذلك الوادي معروفٌ بالنمل كوادي السباع ونحوه ، ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم ، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكناً لا يدخل عليهم فيه سواهم ، ثم قالت : ( لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده ) [ النمل : 18 ] ، فجمعت بين اسمه وعينه ، وعرفته بهما ، وعرفت جنوده وقائدهم ، ثم قالت : ( وهم لا يشعرون ) [ النمل : 18 ] فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون وبين لومة أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ، ويدخلوا مساكنهم ، ولذلك تبسم نبي الله ضاحكاً من قولها ، وإنه لموضع تعجب وتبسم .
وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( نهى عن قتل النمل والنحلة والهدهد والصرد )) (5) ، وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأخرج ، وأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه : أن قرصتْك نملة أحرقت أمة من الأمم تُسبحُ ! فهلا نملة واحدة !) . (6)
وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير ، قال : قال أبو موسى الأشعري : إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة .
ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سمواته على عرشه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه ، قال : ( خرج نبيٌّ من الأنبياء بالناس يَسْتَسْقُون ، فإذا هم بنملة رافعة قَوائِمها إلى السماء تدعو مُستلقية علـى ظهرها ، فقال : ( ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم ) ولِهذا الأثر عدة طرق ، ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره .
وفي مسند الإمام أحمد : ( أن سليمان بن داود خرج يستسقي ، فرأى نملة مُستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقولُ : اللهم إنا خلق من خلقك ، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك ، فإما أن تُسقينا وترزقنا ، وإما أن تهلكنا ، فقال : ارجعوا فقد سُقيتُمْ بدعوة غَيركم ) .
ولقد حُدّثت أن نملة خرجت من بيتها ، فصادفت شق جرادة ، فحاولت أن تحمله فلم تطق ، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها ، قال : فرفعتُ ذلك من الأرض ، فطافت في مكانه فلم تجده ، فانصرفوا وتركوها .
قال : فوضعته ، فعادت تحاول حمله فلم تقدر ، فذهبت ، وجاءت بهم ، فرفعته ، فطافت فلم تجده فانصرفوا ، قال : فعلت ذلك مراراً ، فلما كان في المرة الأخرى استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها ، وقطعوها عضواً عضواً ، قال شيخنا : وقد حكيت له هذه الحكاية فقـال : هذا النمل فطرها الله – سبحانه – على قبح الكذب وعقوبة الكذاب .
والنمل من أحرص الحيوانات ، ويضرب بحرصه المثل ، ويذكر أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء استحضر نملة ، وسألها : كم تأكل النملة من الطعام كل سنة ؟ فقالت : ثلاث حبات من الحنطة ، فأمر بإلقائها في قارورة ، وسد فم القارورة ، وجعل معها ثلاث حبات حنطة ، وتركها سنة بعد ما قالت : ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة ، فوجد حبة ونصف حبة ، فقال : أين زعمك ؟ أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات .
فقالت : نعم ، ولكن لما رأيتك مشغولاً بمصالح بني جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة ، فاقتصرت على نصف القوت ، واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي ، فعجب سليمان من شدة حرصها ، وهذا من أعجب الهداية والعطية .
ومن حرصها أنها تكدّ طول الصيف ، وتجمع للشتاء علماً منها بإعواز الطلب في الشتاء ، وتَعَذّرِ الكسب فيه ، وهي على ضعفها شديدة القوى ، فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها ، وتجره إلى بيتها .
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أن رائداً يطلب الرزق ، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات ، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها دون صواحباتها .
ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل لا يسقط في عسل أو نحوه ، فإنه يحفر حفيرة ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيراً ، ويملؤه ماء ، ثم يضع فيه ذلك الشيء ، فيأتي الذي يطيف به فلا يقدر عليه ، فيتسلق في الحائط ، ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء ، فتلقي نفسها عليه ، وجربنا نحن ذلك .
وأحمى صانع مرة طوقاً بالنار ورماه على الأرض ليبرد . واتفق أن اشتمل الطوق على نمل ، فتوجه في الجهات ليخرج ، فلحقه وهج النار ، فلزم المركز ووسط الطوق ، وكان ذلك مركزاً له ، وهو أبعد مكان من المحيط " . (7)
النمل الأبيض غذاؤه ومساكنه :
يحدثنا الأستاذ يوسف عز الدين : عما كشف العلم من أسرار هذا الكائن : " ومن الغرائز التي وهبها الله لمثل هذه الكائنات الضئيلة ما هو مذهل ، يجعل كل ذي عقل من البشر يخرّ ساجداً للخالق العظيم .
على سبيل المثال ما نراه في مستعمرة نوع من الحشرات نطلق عليه اسم ( النمل الأبيض ) ، تعيش هذه الحشرات أيضاً في مستعمرات ، إذا زاد أفراد المستعمرة عن الحد المعقول بالنسبة لكمية الغذاء المتاحة ، فإنّ هذه الحشرات تدرك هذه الحقيقة عن طريق الغريزة ، فتبدأ الأفراد في التهام عدد كبير من البيض ، وبذلك يسهم في حلّ مشكلة زيادة أفراد المستعمرة ومشكلة الغذاء ، إذ أن التهام البيض يعتبر تغذية ، وفي الوقت نفسه يقلل من عدد الذرية .
إنّ هذه الحشرات لا تدرك لماذا تفعل ذلك ، ولكنّها النفحة الإلهية التي تلهمها لعمل ما لا يمكن أن تدركه من الأشياء التي تعود عليها بالفائدة وتجنبها الفناء .
هذه الحشرات نفسها تتغذى على الأخشاب وتلتهمها بشراهة ، إذ في بعض الأماكن الموبوءة بها قد يتناول أفراد الأسرة طعامهم على منضدة الطعام ، ثم يذهبون في الصباح لتناول إفطارهم ، فيجدون تلك المنضدة قد تقوضت أركانها ، وانهارت في ليلة واحدة .
وفي بعض جهات استراليا الموبوءة بتلك الحشرات المدمرة قد يسأل أحد السائحين وهو ناظر من نافذة القطار عن اسم القرية التي رآها على مدى البصر ، فيعتريه الذهول عندما يخبرونه أن تلك القرية لا تضم آدميين ، ولكنها المساكن التي أقامها النمل الأبيض ليعيش بها .
هذه المساكن ترتفع عن سطح الأرض عدة أمتار وتصنعها الحشرات من مادة غريبة ، هي خليط من لعابها وبعض المواد الأخرى ، وهي أقوى من الإسمنت المسلح ، ولا يمكن أن تخترقها الحشرات أو يتسرب إليها الماء من خلال جدرانها ، وبداخلها أنفاق متشعبة يعيش فيها النمل الأبيض .
وتستخدم هذه الحشرات للتخابر عن بعد نوعاً من الشيفرة تشبه شيفرة التلغراف ، إذ تدق على جدران النفق برأسها عدة دقات فيفهم باقي النمل ما تريد عن طريق تلك الدقات الشفرية ، تفعل ذلك دون أن تدري ماذا تفعل ، إذ إنها تفعلها عن طريق الإلهام المسمى الغريزة .
ولقد احتار العلماء فترة طويلة من الزمن في تفسير إمكان حياة مثل هذه الحشرات عن طريق الغذاء على الأخشاب ، والخشب لا يحتوي على أية مواد عضوية قابلة للهضم ، وأخيراً اكتشفوا السر .
لقد وجدوا في داخل الجهاز الهضمي لأفراد هذه الحشرات حيوانات دقيقة أولية يتكون جسمها من خلية واحدة ، وهذه الحيوانات الأولية تفرز أجسامها إفرازات تحول الخشب إلى مواد غذائية قابلة للهضم هي التي تغذي النمل الأبيض .
ومن العجيب أنّه لم يحدث إطلاقاً أن اكتشفت نملة بيضاء واحدة تخلو أمعاؤها من هذه الحيوانات الأولية ، ولو لم توجد هذه الحيوانات داخل أمعاء النمل الأبيض منذ بدء خلقها لما أمكنها الحياة ، ولانقرضت منذ أول جيل من أجيالها ، هل من الممكن أن يحدث هذا عن طريق المصادفة أم هو شيء مقدر مدبر مرسوم ؟ " .
النمل يربي المواشي ويفلح الأرض :
ومن عجائب النمل ما ذكره الدكتور يوسف عز الدين ، فقد ذكر أن النمل استأنس مئات من الأجناس من الحيوانات الأدنى منه شأناً ، بينما لم يستأنس الإنسان سوى نحو عشرين من الحيوانات الوحشية التي سخرها لمنفعته ومتعته ، ولقد عرف النمل الزرع والرعي عن طريق الغريزة .
إنَّ حشرات المن التي يطلق عليها أحياناً ( قمل النبات ) التي نراها على أوراق بعض النبات يرعاها النمل ليستفيد منها . ففي الربيع الباكر يرسل النمل الرسل لتجمع له بيض هذا المن ، فإذا جاؤوا به وضعوه في مستعمراتهم حيث يضعون بيضهم ، ويهتمون ببيض هذه الحشرات كما يهتمون ببيضهم ، فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار أطعموها وأكرموها ، وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يدر سائلاً حلواً كالعسل كما تدر البقرة اللبن ، ويتولى النمل حلب هذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها أبقار .
ولا يعتني النمل بتربية ((المواشي)) هذه وحدها ، بل يعتني كذلك بالزرع وفلاحة الأرض ، لقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الأرض قد نما بها أرز قصير من نوع نصف بري ، كانت مساحة القطعة خمسة أقدام طولاً في ثلاثة عرضاً ، وكان طول الأرز نحو ستة ((سنتيمترات)) ، ويتراءى للناظر إلى هذه البقعة من الأرض أنّ أحداً لا بد يعتني بها ، فالطينة حول الجذور كانت مشققة ، والأعشاب الغريبة كانت مستأصلة ، والغريب أنّه لم يكن على مقربة من هذا المكان عود آخر من الأرز ، فهذا الأرز لم ينم من تلقاء نفسه ، وإنّما زرعه زارع .
ولوحظ أن طوائف النمل تأتي إلى هذا المزروع وتذهب عنه ، فانبطح العالم على الأرض يلاحظ ما يصنعه ، ولم يلبث أن عرف أنّ هذا النمل هو القائم بزراعة الأرز في تلك البقعة من الأرض ، وأنه اتخذ من زراعتها مهنة له ، تشغل كل وقته ، فبعضه كان يشق الأرض ويحرثها ، وبعض آخر كان يزيل الأعشاب الضارة ، فإذا ظهر عود من عشب غريب قام إليه بعض النمل ، فيقضمونه ، ثم يحملونه بعيداً عن المزرعة .
نما الأرز حتى بلغ طوله ستين سنتيمتراً ، وكانت حبوب الأرز قد نضجت ، فلما بدأ موسم الحصاد شاهد صفاً من شغالة النمل لا ينقطع متجهاً نحو العيدان ، فيتسلقها إلى أن يصل إلى حبوب الأرز ، فتنزع كل شغالة من النمل حبة من تلك الحبوب ، وتهبط بها سريعاً إلى الأرض ، ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض .
بل الأعجب من ذلك أنّ طائفة من النّمل كانت تتسلق الأعواد ، فتلتقط الحب ، ثم تلقي به ، بينما طائفة أخرى تتلقاه ، وتذهب به إلى المخازن ..
ويعيش هذا النوع من النمل عيشة مدنية في بيوت كبيوتنا ذات شقق وطبقات ، أجزاء منها تحت الأرض ، وأجزاء فوق الأرض ، في هذه المدن نجد الخدم والعبيد .
بل الأعجب من ذلك نجد الممرضات اللاتي تعني بالمرضى ليلاً ونهاراً ، ونجد منها من يرفع جثث من يموت من النمل ....
يفعل ذلك النوع من النمل كلّ هذا بدون تفكير ، إذ يتم بالغريزة التي أودعها الله في أجسامهم الصغيرة .
5- هداية الهدهد وعجائب صنع الله فيه
ويحدثنا ابن القيم بأسلوبه السهل الأخاذ عن نوع آخر من مخلوقات الله التي لها في كتاب الله ذِكْر ، ألا وهو الهدهد ، متحدثاً عن هداية الله له فيقول :
" وهذا الهدهد من أهدى الحيوان وأبصره بمواضع الماء تحت الأرض ، لا يراه غيره ، ومن هدايته ما حكاه الله عنه في كتابه أنه قال لنبي الله سليمان ، وقد فقده وتوعده ، فلما جاء بَدَره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة ، وخاطبه خطاباً هيجه به على الإصغاء إليه والقبول منه ، فقال : ( أحطت بما لم تُحط به ) [ النمل : 22 ] ، وفي ضمن هذا أني أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة بحيث أحطت به ، وهو خبر عظيم له شأن ، فلذلك قال : ( وجئتك من سبإ بنبإٍ يقينٍ ) [ النمل : 22 ] ، والنبأ هو الخبر الذي له شأن ، والنفوس متطلعة إلى معرفته ، ثم وصفه بأنه نبأ يقين ، لا شك فيه ولا ريب ، فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ استفرغت قلب المخبر لتلقي الخبر ، وأوجبت له التشوق التام إلى سماعه ومعرفته ، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج .
ثم كشف عن حقيقة الخبر كشفاً مؤكداً بأدلة التأكيد ، فقال : ( إنّي وجدت امرأةً تملكهم ) [ النمل : 23 ] ، ثم أخبر عن شأن تلك الملكة ، وأنها من أجلّ الملوك بحث أوتيت من كل شيء يصلح أن تؤتاه الملوك ، ثم زاد في عظيم شأنها بذكر عرشها الذي تجلس عليه ، وأنه عرش عظيم ، ثم أخبره بما يدعوه إلى قصدهم ، وغزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلى الله ، فقال : ( وجدتُّها وقومها يسجدون للشَّمس من دون الله ) [ النمل : 24 ] .
وحذف أداة العطف من هذه الجملة ، وأتى بها مستقلة غير معطوفة على ما قبلها ، إيذاناً بأنها هي المقصودة ، وما قبلها توطئة لها ، ثم أخبر عن المغوي لهم ، الحامل لهم على ذلك ، وهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم ، حتى صدهم عن السبيل المستقيم ، وهو السجود لله وحده ، ثم أخبر أن ذلك الصد حال بينهم وبين الهداية والسجود لله الذي لا ينبغي السجود إلا له .
ثم ذكر من أفعاله – سبحانه – إخراج الخبء في السماوات والأرض ، وهو المخبوء فيهما من المطر والنبات والمعادن وأنواع ما ينزل من السماء ، وما يخرج من الأرض ، وفي ذكر الهدهد هذا الشأن من أفعال الرب تعالى بخصوصه إشعار بما خصه الله به من إخراج الماء المخبوء تحت الأرض .
قال صاحب الكشاف : وفي إخراج الخبء إمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض ، وذل بإلهام مَنْ يخرج الخبء في السماوات والأرض جلت قدرته ولطف علمه ، ولا يكاد يخفى على ذي الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من المعلم في روائه ومنطقه وشمائله ، فما عمل آدمي عملاً إلا ألقى عليه رداء عمله " .
6- هداية الحمام وعجائب صنع الله فيه
أما حديث ابن القيم عن الحمام وبدائع صنع الله فيه ، وعجيب هدايته إلى ما هداه إليه فحديث طويل ممتع ، يدل على أن التفكير في خلق الله منهج أخ