قواعد مهمة في صفات الله وأسمائه
هناك عدة قواعد مهمة ، ونقاط رئيسة ، نبه إليها العلماء في هذا الباب نسوقها موجزة مختصرة .
القاعدة الأولى : القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر (1) :
بهذه القاعدة نرد على عدة طوائف :
أ- الذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها ، كالذين يثبتون لله الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ، والإرادة ، ويجعلونها صفات حقيقية ، ثم ينازعون في محبة الله ورضاه ، وغضبه وكراهيته ، ويجعلون ذلك مجازاً ، أو يفسرونه بالإرادة ، أو يفسرونه بالنعم والعقوبات .
فيقال لهؤلاء : لا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه ، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر ، فإن كنتم تقولون : حياته وعلمه كحياة المخلوقين وعلمهم ، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته كذلك .
وإن قلتم له حياة وعلم وإرادة تليق به ولا تشبه حياة المخلوقين وعلمهم وإرادتهم ، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته وغضبه كذلك .
وإن قلتم : إن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ، فكذلك يقال : الإرادة ميل النفس إلى جلب مصلحة أو دفع مضرة ، فإن قلتم : هذه إرادة مخلوق ، قلنا : هذا غضب مخلوق .
ب- الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات ، فيقولون حي بلا حياة ، عليم بلا علم ... الخ .
فهؤلاء يقال لهم : لا فرق بين إثبات الأسماء ، وإثبات الصفات ، فإنك إن قلت إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي التشبيه أو التجسيم لأنا لا نجد متصفاً بالصفات إلا وهو جسم ، قلنا : وكذلك في الأسماء ، إذ لا نجد ما هو مسمى بحي وعليم وقدير إلا ما هو جسم ، فانف أسماء الله ، فإن قالوا : هذه الأسماء تليق بكماله وجلاله ، قلنا : وكذلك صفاته .
ج- الذين ينفون الأسماء والصفات ، فإنهم بزعمهم ينفون ذلك حتى لا يشبهوا الله بالموجودات ، فيقال لهم : نفيتم علمه وحياته كما نفيتم أنه عليم حي خشية أن تشبهوه بالموجودات ، ولكن يلزم قولكم هذا تشبيه الله بالمعدومات .
القاعدة الثانية : القول في الصفات كالقول في الذات (2) :
فالله – سبحانه – له ذات لا تشبه ذوات المخلوقين ، وكذلك صفاته وأفعاله لا تشبه ذوات المخلوقين وأفعالهم .
إذ يلزم من أقر بأن الله حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء أن يقول : إن سمعه وبصره وكلامه الثابت في نفس الأمر لا يشابهه سمع المخلوقين ولا بصرهم ولا كلامهم .
فإن قال قائل : أنا أنفي استواء الله خشية من تشبيه الله بخلقه ، فيقال له : انف وجود الله وذاته ، لأنه يلزم من ذلك تشبيه الله بخلقه ، فإن قال : لله وجود يخصه ، وذات تخصه لا تشبه ذوات المخلوقين ، قلنا : وكذلك نزوله واستواؤه .
القاعدة الثالثة : الاتفاق في الأسماء لا يقتضي التساوي في المسميات :
فإننا نعلم أن ما أخبرنا الله تعالى به مما في الجنة من لبن وعسل وخمر حق ، وهذه الحقائق وإن كانت موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا فإنها لا تماثلها ، بل بينها وبين ما في الدنيا من المباينة ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، فالخالق أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق ، بل قد تسمي في الدنيا عدة أشياء باسم واحد ، ويكون لكل واحد حقيقة تخصه ، فإننا نقول مثلاً : يد الجمل ، ويد الباب ، ويد الإنسان ، واليد في كل لفظة من الألفاظ الثلاثة لها معنى يخصها .
القاعدة الرابعة : لا يوصف الله بالنفي المحض :
أثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه أسماء وصفات ، ونفى عن نفسه أسماء وصفات .
والإثبات والنفي في أسمائه وصفاته مجمل ومفصل ، فالإثبات المجمل يكون بإثبات الثناء المطلق ، والحمد المطلق ، والمجد المطلق لله تعالى ، ونحو ذلك كما يشير إليه قوله : ( الحمد لله ربّ العالمين ) [ الفاتحة : 2 ] ، وقوله : ( ولله المثل الأعلى ) النحل : 60] .
وأما التفصيل في الإثبات فهو متناول لكل اسم أو صفة وردت في الكتاب والسنة .
والنفي المجمل يكون بأن ينفي عن الله – عزّ وجلّ – كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص مثل قوله : ( ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] وقوله : ( هل تعلم له سَميّاً ) [ مريم : 65 ] .
وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه الله عن كل واحد من هذه العيوب والنقائص بخصومه ، فينزه عن الوالد والولد والشريك والصاحبة والند والجهل والعجز والسنة والنوم والعبث ... إلخ .
إلا أن منهج القرآن في النفي أن لا ينفي نفياً محضاً ، فلا ينفي القرآن صفة نقص عن الله إلا إذا كانت متضمنة صفة مدح وكمال ، فلا ينفي نفياً مجرداً ، كما تفعل بعض الفرق (3) ، فقوله تعالى : ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم لا تأخذهُ سنةٌ ولا نومٌ لَّه ما في السَّماوات وما في الأرض من ذا الذَّي يشفع عنده إلاَّ بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلاَّ بما شاء وسع كرسيُّه السَّماوات والأرض ولا يَؤُودُهُ حفظهما ) [ البقرة : 255 ] فيه نفي السنة والنوم عن الله تعالى ، ونفيهما يتضمن كمال الحياة والقيام ، فمن كمال حياته : ألا تأخذه سنة ( وهي أوائل النوم ) ولا نوم ، وقوله ولا يَؤُودُهُ حفظهما ) [البقرة: 255] مستلزم لكمال قدرته وتمامها ، إذ المعنى ( لا يكرثه ولا يثقله ) .
ومثل ذلك قوله : ( لا يعزب عنه مثقال ذرَّةٍ في السَّماوات ولا في الأرض ) [سبأ:3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض .
وكذلك قوله : ( ولقد خلقنا السَّماوات والأرض وما بينهما في ستَّة أيامٍ وما مسَّنا من لُّغوبٍ ) [ ق : 38 ] فإن نفي اللغوب ( وهو التعب والإعياء ) دل على كمال القدرة ونهاية القوة . وكذلك قوله : ( لاَّ تُدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] أي : لا تحيط به الأبصار فهو وإن رئي في الآخرة ، ولكنه لعظمته – سبحانه – لا تحيط به الأبصار .
وكذلك كل ما نفاه الله عن نفسه ، فإنه يستلزم صفة ثبوتية يمدح الله بها .
ولم يصف الله نفسه بنفي محض لا يستلزم صفة ثبوتية ، وبذلك يتضح أن الذين يتجهون إلى الإكثار من النفي ( أو ما يسمونه السلوب ) أخطؤوا ؛ لأن النفي ليس فيه مدح ولا كمال ما لم يتضمن إثباتاً ؛ لأن النفي المحض عدم محض ، والعدم المحض ليس بشيء .
وقد أكثر المبتدعون من النفي المحض فقالوا : لا يتكلم ، ولا يرى ، وليس فوق العالم ، وغلا بعضهم فقالوا : ليس بداخل العالم ولا خارجه ، ولا مبايناً للعالم ، ولا مخالطاً له ... إلى آخر هذا الكلام الغث الذي يجعلون الله به عدماً ... تعالى وتقدس .
القاعدة الخامسة : الألفاظ الموهمة حقاً وباطلاً (4) :
الصفات التي وردت في الكتاب والسنة حق يجب الإيمان بها ، وإن لم نفقه معناها .
أما ما يطلقه الناس على الله – سبحانه – مما لم يرد في الكتاب والسنة مما يتنازع فيه الناس فلا نثبته ولا ننفيه حتى نتبين مراد قائله منه .
فمثلاً يقال لمن نفى الجهة : ماذا تعني بالجهة ؟ إن كنت تعني أن الله في داخل جرم السماء ، وأن السماء تحويه ، فلا يجوز أن نقول : إن الله في جهة ، وإن كنت تريد أن الله فوق مخلوقاته فوق السماوات فهذا حق .
وكذلك التحيز ، إن كان المراد أن الله تحوزه المخلوقات فهذا باطل قطعاً ، وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات ، أي : مباين لها فهذا حق .
القاعدة السادسة : التعطيل سببه اعتقاد التشبيه أو لا :
وقد وضح هذه القاعدة العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى ، وبين أن أصل البلاء وأسه هو تنجس القلب وتلطخه وتدنسه بأقذار التشبيه ، فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات الكمال ، التي أثنى الله بها على نفسه ، كنزوله إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير ، وكاستوائه على عرشه ، وكمجيئه يوم القيامة ، وغير ذلك من صفات الجلال والكمال ، فإن أول ما يخطر في ذهنه أن هذه الصفة تشبه صفة الخلق ، فيكون قلبه متنجساً بأقذار التشبيه ، لا يقدّر الله حق قدره ، ولا يعظم الله حق عظمته ، حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق ، فيكون أولا نجس القلب متقذراً بأقذار التشبيه ، فيدعوه شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق – جلّ وعلا – عنه ، بادعاء أنها تشبه صفات المخلوق ، فيكون أولاً مشبهاً ، وثانياً معطلاً ، فصار ابتداء وانتهاءً متهجماً على رب العالمين ، ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق به .
وذكر الشيخ – رحمه الله تعالى – قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتد به من أهل العلم . وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا سيما في العقائد . ولو مشينا على فرضهم الباطل ، أن ظاهر آيات الصفات الكفر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول الاستواء ( بالاستيلاء ) ، ولم يؤول شيئاً من هذه التأويلات ، ولو كان المراد بها هذه التأويلات لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها ؛ لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة .
وبين الشيخ – رحمه الله تعالى – أن الواجب على المسلم إذا سمع وصفاً وصف به خالق السماوات والأرض نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يملأ صدره من التعظيم ، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين ، فيكون القلب منزّها معظما له جلّ وعلا ، غير متنجس بأقذار التشبيه ، فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق بصفات الله التي تمدّح بها ، وأثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، على غرار قوله : ( ليس كمثله شيءٌ وهو السَّميع البصير ) [ الشورى : 11 ] ، والشر كل الشر في عدم تعظيم الله ، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق ، فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى الكاذبة الخائنة .
القاعدة السابعة : آيات الصفات ليست من المتشابه :
ذكر الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – أن كثيراً من الناس يطلق على آيات الصفات اسم المتشابه ، وهذا من جهة غلط ، ومن جهة قد يَسُوغ كما بينه الإمام مالك بن أنس بقوله : " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والسؤال عنه بدعة ، والإيمان به واجب " .
كذلك يقال في النزول : النزول غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والسؤال عنه بدعة ، والإيمان به واجب ، واطرده في جميع الصفات ؛ لأن هذه الصفات معروفة عند العرب ، إلا أن ما وصف به خالق السماوات والأرض منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئاً من صفات المخلوقين ، كما أن ذات الخالق – جلّ وعلا – حق ، والمخلوقون لهم ذوات ، وذات الخالق – جلّ وعلا – أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين .
القاعدة الثامنة : ليس ظاهر الصفات التشبيه حتى تحتاج إلى تأويل :
المقرر في الأصول أن الكلام إن دل على معنى لا يحتمل غيره فهو المسمى ( نصاً ) كقوله تعالى : ( تلك عشرةٌ كاملةٌ ) [ البقرة : 196 ] ، فإذا كان يحتمل معنيين أو أكثر فلا يخلو من حالتين : إما أن يكون أظهر في أحد الاحتمالين من الآخر ، وإما أن يتساوى بينهما .
فإن كان الاحتمال يتساوى بينهما فهذا الذي يسمى في الاصطلاح : ( المجمل ) كما لو قلت : ( عدا اللصوص البارحة على عين زيد ) فإنه يحتمل أن تكون عينه الباصرة عوروها ، أو عينه الجارية غوروها ، أو عينه ذهباً وفضة سرقوها ، فهذا مجمل ، وحكم المجمل أن يتوقف عنه إلا بدليل يدل على التفصيل .
أما إذا كان نصا صريحاً ، فالنص يعمل به ، ولا يعدل عنه إلا بثبوت النسخ .
فإذا كان أظهر في أحد الاحتمالين فهو المسمى بـ ( الظاهر ) ، ومقابله يسمى ( محتملاً مرجوحاً ) ، والظاهر يجب الحمل عليه إلا لدليل صارف عنه ، كما لو قلت : " رأيت أسداً " فهذا ظاهر في الحيوان المفترس ، محتمل للرجل الشجاع .
وعلى ذلك فهل المتبادر من آيات الصفات من نحو قوله : ( يد الله فوق أيديهم ) [الفتح : 10] وما جرى مجرى ذلك هو مشابهة الخلق ، حتى يجب علينا أن نؤول ونصرف اللفظ عن ظاهره ؟ أو ظاهرها المتبادر منها تنزيه رب السماوات حتى يجب علينا أن نقره على الظاهر من التنزيه ، والجواب : أن كل وصف أسند إلى رب السماوات والأرض ، فظاهره المتبادر منه عند كل مسلم هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق .
فإقراره على ظاهره هو الحق ، وهو تنزيه رب السماوات والأرض عن مشابهة الخلق في شيء من صفاته . فهل ينكر عاقل أن المتبادر للأذهان السليمة أن الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته . لا والله لا يعارض في هذا إلا مكابر .
القاعدة التاسعة : حقيقة التأويل (5) :
التأويل الذي فتن به الخلق ، وضل به الآلاف من هذه الأمة يطلق في الاصطلاح مشتركاً بين ثلاثة معان :
1- يطلق على ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال ، وهذا هو معناه في القرآن نحو قوله تعالى : ( ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً ) [ النساء : 59 ] ، ( ولمَّا يأتهم تأويله ) [يونس : 39] ، ( يوم يأتي تأويله يقول الَّذين نسوه من قبل ) [ الأعراف : 53 ] ؛ أي ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال .
2- ويطلق التأويل بمعنى التفسير ، وهذا قول معروف كقول ابن جرير : القول في تأويل قوله تعالى كذا ، أي تفسيره .
3- أما في اصطلاح الأصوليين فالتأويل : هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل .
وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه له عند علماء الأصول ثلاث حالات :
أ- إما أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة ، وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول لا نزاع فيه . ومثال هذا النوع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الجار أحق بصقبه ) (6) فظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار .
وحمل هذا الحديث على الشريك المقاسم حمل للفظ على محتمل مرجوح غير ظاهر متبادر ، إلا أن حديث جابر الصحيح ( فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ) (7) دل على أن المراد بالجار الذي هو أحق بصقبه خصوص الشريك المقاسم . فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل واضح من كتاب وسنة يجب الرجوع إليه ، وهذا تأويل يسمى تأويلاً صحيحاً وتأويلاً قريباً .
ب- الثانية هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلاً ، وهو في نفس الأمر ليس دليلاً ، فهذا يسمى تأويلاً بعيداً ، ويقال له : فاسد . ومثل له بتأويل أبي حنيفة لفظ : ( امرأة ) في قوله صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ) ( قالوا : حمل هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد ، لأنه صرف للفظ عن ظاهره المتبادر منه ، لأن ( أي ) في قوله ( أي امرأة ) صيغة عموم .
وأكدت صيغة العموم بما المزيدة للتوكيد ، فحمل هذا على صورة نادرة هي المكاتبة حمل للفظ على غير ظاهره من غير دليل .
ج- أما حمل اللفظ على غير ظاهره لا لدليل : فهذا لا يسمى تأويلاً في الاصطلاح بل يسمى لعباً ، لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . ومن هذا تفسير غلاة الروافض قوله تعالى : ( إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرةً ) [ البقرة : 67 ] قالوا : عائشة .
ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان ، كقولهم : ( استوى ) بمعنى : استولى . فهذا لا يدخل في اسم التأويل ، لأنه لا دليل عليه ألبتة . وإنما يسمى في اصطلاح أهل الأصول : لعباً ، لأنه تلاعب بكتاب الله – جلّ وعلا – من غير دليل ولا مستند . فهذا النوع لا يجوز ؛ لأنه تهجّم على كلام رب العالمين ، والقاعدة المعروفة عند علماء السلف أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله ولا سنة رسوله عن ظاهره المتبادر منه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه
هناك عدة قواعد مهمة ، ونقاط رئيسة ، نبه إليها العلماء في هذا الباب نسوقها موجزة مختصرة .
القاعدة الأولى : القول في بعض الصفات كالقول في بعضها الآخر (1) :
بهذه القاعدة نرد على عدة طوائف :
أ- الذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها ، كالذين يثبتون لله الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع ، والبصر ، والكلام ، والإرادة ، ويجعلونها صفات حقيقية ، ثم ينازعون في محبة الله ورضاه ، وغضبه وكراهيته ، ويجعلون ذلك مجازاً ، أو يفسرونه بالإرادة ، أو يفسرونه بالنعم والعقوبات .
فيقال لهؤلاء : لا فرق بين ما أثبتموه وما نفيتموه ، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر ، فإن كنتم تقولون : حياته وعلمه كحياة المخلوقين وعلمهم ، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته كذلك .
وإن قلتم له حياة وعلم وإرادة تليق به ولا تشبه حياة المخلوقين وعلمهم وإرادتهم ، فيلزمكم أن تقولوا في رضاه ومحبته وغضبه كذلك .
وإن قلتم : إن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ، فكذلك يقال : الإرادة ميل النفس إلى جلب مصلحة أو دفع مضرة ، فإن قلتم : هذه إرادة مخلوق ، قلنا : هذا غضب مخلوق .
ب- الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات ، فيقولون حي بلا حياة ، عليم بلا علم ... الخ .
فهؤلاء يقال لهم : لا فرق بين إثبات الأسماء ، وإثبات الصفات ، فإنك إن قلت إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي التشبيه أو التجسيم لأنا لا نجد متصفاً بالصفات إلا وهو جسم ، قلنا : وكذلك في الأسماء ، إذ لا نجد ما هو مسمى بحي وعليم وقدير إلا ما هو جسم ، فانف أسماء الله ، فإن قالوا : هذه الأسماء تليق بكماله وجلاله ، قلنا : وكذلك صفاته .
ج- الذين ينفون الأسماء والصفات ، فإنهم بزعمهم ينفون ذلك حتى لا يشبهوا الله بالموجودات ، فيقال لهم : نفيتم علمه وحياته كما نفيتم أنه عليم حي خشية أن تشبهوه بالموجودات ، ولكن يلزم قولكم هذا تشبيه الله بالمعدومات .
القاعدة الثانية : القول في الصفات كالقول في الذات (2) :
فالله – سبحانه – له ذات لا تشبه ذوات المخلوقين ، وكذلك صفاته وأفعاله لا تشبه ذوات المخلوقين وأفعالهم .
إذ يلزم من أقر بأن الله حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء أن يقول : إن سمعه وبصره وكلامه الثابت في نفس الأمر لا يشابهه سمع المخلوقين ولا بصرهم ولا كلامهم .
فإن قال قائل : أنا أنفي استواء الله خشية من تشبيه الله بخلقه ، فيقال له : انف وجود الله وذاته ، لأنه يلزم من ذلك تشبيه الله بخلقه ، فإن قال : لله وجود يخصه ، وذات تخصه لا تشبه ذوات المخلوقين ، قلنا : وكذلك نزوله واستواؤه .
القاعدة الثالثة : الاتفاق في الأسماء لا يقتضي التساوي في المسميات :
فإننا نعلم أن ما أخبرنا الله تعالى به مما في الجنة من لبن وعسل وخمر حق ، وهذه الحقائق وإن كانت موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا فإنها لا تماثلها ، بل بينها وبين ما في الدنيا من المباينة ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، فالخالق أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق ، بل قد تسمي في الدنيا عدة أشياء باسم واحد ، ويكون لكل واحد حقيقة تخصه ، فإننا نقول مثلاً : يد الجمل ، ويد الباب ، ويد الإنسان ، واليد في كل لفظة من الألفاظ الثلاثة لها معنى يخصها .
القاعدة الرابعة : لا يوصف الله بالنفي المحض :
أثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه أسماء وصفات ، ونفى عن نفسه أسماء وصفات .
والإثبات والنفي في أسمائه وصفاته مجمل ومفصل ، فالإثبات المجمل يكون بإثبات الثناء المطلق ، والحمد المطلق ، والمجد المطلق لله تعالى ، ونحو ذلك كما يشير إليه قوله : ( الحمد لله ربّ العالمين ) [ الفاتحة : 2 ] ، وقوله : ( ولله المثل الأعلى ) النحل : 60] .
وأما التفصيل في الإثبات فهو متناول لكل اسم أو صفة وردت في الكتاب والسنة .
والنفي المجمل يكون بأن ينفي عن الله – عزّ وجلّ – كل ما يضاد كماله من أنواع العيوب والنقائص مثل قوله : ( ليس كمثله شيء ) [ الشورى : 11 ] وقوله : ( هل تعلم له سَميّاً ) [ مريم : 65 ] .
وأما التفصيل في النفي فهو أن ينزه الله عن كل واحد من هذه العيوب والنقائص بخصومه ، فينزه عن الوالد والولد والشريك والصاحبة والند والجهل والعجز والسنة والنوم والعبث ... إلخ .
إلا أن منهج القرآن في النفي أن لا ينفي نفياً محضاً ، فلا ينفي القرآن صفة نقص عن الله إلا إذا كانت متضمنة صفة مدح وكمال ، فلا ينفي نفياً مجرداً ، كما تفعل بعض الفرق (3) ، فقوله تعالى : ( الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيُّوم لا تأخذهُ سنةٌ ولا نومٌ لَّه ما في السَّماوات وما في الأرض من ذا الذَّي يشفع عنده إلاَّ بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلاَّ بما شاء وسع كرسيُّه السَّماوات والأرض ولا يَؤُودُهُ حفظهما ) [ البقرة : 255 ] فيه نفي السنة والنوم عن الله تعالى ، ونفيهما يتضمن كمال الحياة والقيام ، فمن كمال حياته : ألا تأخذه سنة ( وهي أوائل النوم ) ولا نوم ، وقوله ولا يَؤُودُهُ حفظهما ) [البقرة: 255] مستلزم لكمال قدرته وتمامها ، إذ المعنى ( لا يكرثه ولا يثقله ) .
ومثل ذلك قوله : ( لا يعزب عنه مثقال ذرَّةٍ في السَّماوات ولا في الأرض ) [سبأ:3] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض .
وكذلك قوله : ( ولقد خلقنا السَّماوات والأرض وما بينهما في ستَّة أيامٍ وما مسَّنا من لُّغوبٍ ) [ ق : 38 ] فإن نفي اللغوب ( وهو التعب والإعياء ) دل على كمال القدرة ونهاية القوة . وكذلك قوله : ( لاَّ تُدركه الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] أي : لا تحيط به الأبصار فهو وإن رئي في الآخرة ، ولكنه لعظمته – سبحانه – لا تحيط به الأبصار .
وكذلك كل ما نفاه الله عن نفسه ، فإنه يستلزم صفة ثبوتية يمدح الله بها .
ولم يصف الله نفسه بنفي محض لا يستلزم صفة ثبوتية ، وبذلك يتضح أن الذين يتجهون إلى الإكثار من النفي ( أو ما يسمونه السلوب ) أخطؤوا ؛ لأن النفي ليس فيه مدح ولا كمال ما لم يتضمن إثباتاً ؛ لأن النفي المحض عدم محض ، والعدم المحض ليس بشيء .
وقد أكثر المبتدعون من النفي المحض فقالوا : لا يتكلم ، ولا يرى ، وليس فوق العالم ، وغلا بعضهم فقالوا : ليس بداخل العالم ولا خارجه ، ولا مبايناً للعالم ، ولا مخالطاً له ... إلى آخر هذا الكلام الغث الذي يجعلون الله به عدماً ... تعالى وتقدس .
القاعدة الخامسة : الألفاظ الموهمة حقاً وباطلاً (4) :
الصفات التي وردت في الكتاب والسنة حق يجب الإيمان بها ، وإن لم نفقه معناها .
أما ما يطلقه الناس على الله – سبحانه – مما لم يرد في الكتاب والسنة مما يتنازع فيه الناس فلا نثبته ولا ننفيه حتى نتبين مراد قائله منه .
فمثلاً يقال لمن نفى الجهة : ماذا تعني بالجهة ؟ إن كنت تعني أن الله في داخل جرم السماء ، وأن السماء تحويه ، فلا يجوز أن نقول : إن الله في جهة ، وإن كنت تريد أن الله فوق مخلوقاته فوق السماوات فهذا حق .
وكذلك التحيز ، إن كان المراد أن الله تحوزه المخلوقات فهذا باطل قطعاً ، وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات ، أي : مباين لها فهذا حق .
القاعدة السادسة : التعطيل سببه اعتقاد التشبيه أو لا :
وقد وضح هذه القاعدة العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى ، وبين أن أصل البلاء وأسه هو تنجس القلب وتلطخه وتدنسه بأقذار التشبيه ، فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات الكمال ، التي أثنى الله بها على نفسه ، كنزوله إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير ، وكاستوائه على عرشه ، وكمجيئه يوم القيامة ، وغير ذلك من صفات الجلال والكمال ، فإن أول ما يخطر في ذهنه أن هذه الصفة تشبه صفة الخلق ، فيكون قلبه متنجساً بأقذار التشبيه ، لا يقدّر الله حق قدره ، ولا يعظم الله حق عظمته ، حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق ، فيكون أولا نجس القلب متقذراً بأقذار التشبيه ، فيدعوه شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق – جلّ وعلا – عنه ، بادعاء أنها تشبه صفات المخلوق ، فيكون أولاً مشبهاً ، وثانياً معطلاً ، فصار ابتداء وانتهاءً متهجماً على رب العالمين ، ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق به .
وذكر الشيخ – رحمه الله تعالى – قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتد به من أهل العلم . وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ولا سيما في العقائد . ولو مشينا على فرضهم الباطل ، أن ظاهر آيات الصفات الكفر ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول الاستواء ( بالاستيلاء ) ، ولم يؤول شيئاً من هذه التأويلات ، ولو كان المراد بها هذه التأويلات لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها ؛ لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة .
وبين الشيخ – رحمه الله تعالى – أن الواجب على المسلم إذا سمع وصفاً وصف به خالق السماوات والأرض نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يملأ صدره من التعظيم ، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين ، فيكون القلب منزّها معظما له جلّ وعلا ، غير متنجس بأقذار التشبيه ، فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق بصفات الله التي تمدّح بها ، وأثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، على غرار قوله : ( ليس كمثله شيءٌ وهو السَّميع البصير ) [ الشورى : 11 ] ، والشر كل الشر في عدم تعظيم الله ، وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق ، فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى الكاذبة الخائنة .
القاعدة السابعة : آيات الصفات ليست من المتشابه :
ذكر الشيخ الشنقيطي – رحمه الله – أن كثيراً من الناس يطلق على آيات الصفات اسم المتشابه ، وهذا من جهة غلط ، ومن جهة قد يَسُوغ كما بينه الإمام مالك بن أنس بقوله : " الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والسؤال عنه بدعة ، والإيمان به واجب " .
كذلك يقال في النزول : النزول غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والسؤال عنه بدعة ، والإيمان به واجب ، واطرده في جميع الصفات ؛ لأن هذه الصفات معروفة عند العرب ، إلا أن ما وصف به خالق السماوات والأرض منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئاً من صفات المخلوقين ، كما أن ذات الخالق – جلّ وعلا – حق ، والمخلوقون لهم ذوات ، وذات الخالق – جلّ وعلا – أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين .
القاعدة الثامنة : ليس ظاهر الصفات التشبيه حتى تحتاج إلى تأويل :
المقرر في الأصول أن الكلام إن دل على معنى لا يحتمل غيره فهو المسمى ( نصاً ) كقوله تعالى : ( تلك عشرةٌ كاملةٌ ) [ البقرة : 196 ] ، فإذا كان يحتمل معنيين أو أكثر فلا يخلو من حالتين : إما أن يكون أظهر في أحد الاحتمالين من الآخر ، وإما أن يتساوى بينهما .
فإن كان الاحتمال يتساوى بينهما فهذا الذي يسمى في الاصطلاح : ( المجمل ) كما لو قلت : ( عدا اللصوص البارحة على عين زيد ) فإنه يحتمل أن تكون عينه الباصرة عوروها ، أو عينه الجارية غوروها ، أو عينه ذهباً وفضة سرقوها ، فهذا مجمل ، وحكم المجمل أن يتوقف عنه إلا بدليل يدل على التفصيل .
أما إذا كان نصا صريحاً ، فالنص يعمل به ، ولا يعدل عنه إلا بثبوت النسخ .
فإذا كان أظهر في أحد الاحتمالين فهو المسمى بـ ( الظاهر ) ، ومقابله يسمى ( محتملاً مرجوحاً ) ، والظاهر يجب الحمل عليه إلا لدليل صارف عنه ، كما لو قلت : " رأيت أسداً " فهذا ظاهر في الحيوان المفترس ، محتمل للرجل الشجاع .
وعلى ذلك فهل المتبادر من آيات الصفات من نحو قوله : ( يد الله فوق أيديهم ) [الفتح : 10] وما جرى مجرى ذلك هو مشابهة الخلق ، حتى يجب علينا أن نؤول ونصرف اللفظ عن ظاهره ؟ أو ظاهرها المتبادر منها تنزيه رب السماوات حتى يجب علينا أن نقره على الظاهر من التنزيه ، والجواب : أن كل وصف أسند إلى رب السماوات والأرض ، فظاهره المتبادر منه عند كل مسلم هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق .
فإقراره على ظاهره هو الحق ، وهو تنزيه رب السماوات والأرض عن مشابهة الخلق في شيء من صفاته . فهل ينكر عاقل أن المتبادر للأذهان السليمة أن الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته . لا والله لا يعارض في هذا إلا مكابر .
القاعدة التاسعة : حقيقة التأويل (5) :
التأويل الذي فتن به الخلق ، وضل به الآلاف من هذه الأمة يطلق في الاصطلاح مشتركاً بين ثلاثة معان :
1- يطلق على ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال ، وهذا هو معناه في القرآن نحو قوله تعالى : ( ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً ) [ النساء : 59 ] ، ( ولمَّا يأتهم تأويله ) [يونس : 39] ، ( يوم يأتي تأويله يقول الَّذين نسوه من قبل ) [ الأعراف : 53 ] ؛ أي ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال .
2- ويطلق التأويل بمعنى التفسير ، وهذا قول معروف كقول ابن جرير : القول في تأويل قوله تعالى كذا ، أي تفسيره .
3- أما في اصطلاح الأصوليين فالتأويل : هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل .
وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه له عند علماء الأصول ثلاث حالات :
أ- إما أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة ، وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول لا نزاع فيه . ومثال هذا النوع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الجار أحق بصقبه ) (6) فظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار .
وحمل هذا الحديث على الشريك المقاسم حمل للفظ على محتمل مرجوح غير ظاهر متبادر ، إلا أن حديث جابر الصحيح ( فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة ) (7) دل على أن المراد بالجار الذي هو أحق بصقبه خصوص الشريك المقاسم . فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل واضح من كتاب وسنة يجب الرجوع إليه ، وهذا تأويل يسمى تأويلاً صحيحاً وتأويلاً قريباً .
ب- الثانية هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلاً ، وهو في نفس الأمر ليس دليلاً ، فهذا يسمى تأويلاً بعيداً ، ويقال له : فاسد . ومثل له بتأويل أبي حنيفة لفظ : ( امرأة ) في قوله صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ) ( قالوا : حمل هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد ، لأنه صرف للفظ عن ظاهره المتبادر منه ، لأن ( أي ) في قوله ( أي امرأة ) صيغة عموم .
وأكدت صيغة العموم بما المزيدة للتوكيد ، فحمل هذا على صورة نادرة هي المكاتبة حمل للفظ على غير ظاهره من غير دليل .
ج- أما حمل اللفظ على غير ظاهره لا لدليل : فهذا لا يسمى تأويلاً في الاصطلاح بل يسمى لعباً ، لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . ومن هذا تفسير غلاة الروافض قوله تعالى : ( إنَّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرةً ) [ البقرة : 67 ] قالوا : عائشة .
ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان ، كقولهم : ( استوى ) بمعنى : استولى . فهذا لا يدخل في اسم التأويل ، لأنه لا دليل عليه ألبتة . وإنما يسمى في اصطلاح أهل الأصول : لعباً ، لأنه تلاعب بكتاب الله – جلّ وعلا – من غير دليل ولا مستند . فهذا النوع لا يجوز ؛ لأنه تهجّم على كلام رب العالمين ، والقاعدة المعروفة عند علماء السلف أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله ولا سنة رسوله عن ظاهره المتبادر منه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه