مناهج العلماء في إثبات العقائد (1)
هل نؤمن بعذاب القبر ، وبالحوض والميزان وأمثال ذلك من الأمور الاعتقادية ؟ وما الذي يجعلنا نؤمن بذلك أو ننفيه ؟
1- يرى علماء السلف الصالح أنّ كلّ ما أخبرنا الله به ، أو أخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ووصل إلينا بطريق صحيح ، يجب الإيمان به وتصديقه . وهم لا يفرقون بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد (2) ، إذا كان صحيحاً ، بل يثبتون العقائد بهما من غير تفريق .
ويستدلون على ذلك بالأدلة العامة التي تأمرنا بتصديق الله ورسوله فيما أخبرا به وطاعتهما فيما أمرا به مثل قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) [ الأحزاب : 36 ] وقوله : ( قل أطيعوا الله والرسول ) [ آل عمران : 32 ] .
2- واحتجّت طائفة ممن ضعف معرفتها بالصحيح والضعيف من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الموضوعة والضعيفة (3) في هذا الباب ومن أمثال هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة :
حديث (( انتهيت إلى ربي ليلة أسري بي إلى السماء ، فرأيتُ ربي ، بيني وبينه حجاب بارزٌ ، فرأيت كل شيء منه ، حتى رأيت تاجاً مخوصاً من اللؤلؤ )) . حديث موضوع . (4)
حديث : ( إنّ الله يَجلسُ على القَنطرةِ الوسْطى بين الجنة والنار ) . (5)
ويجب التحقق من الأحاديث قبل الاحتجاج بها سواء في العقيدة أو الأحكام ، وإلا فإنّ النتيجة أنْ ننسب إلى دين الله ما ليس منه ، ونقرر أموراً اعتقادية باطلة .
ومثل الذين يثبتون العقائد بالأحاديث الضعيفة والموضوعة أولئك الذين يثبتونها بالمنامات والخرافات والأساطير .
3- ورفضت طائفة ثالثة الاحتجاج بالأدلة النقلية أي بالنصوص القرآنية والحديثية في إثبات العقائد ، وقد زعموا أنّ (( الأدلة النقلية لا تفيد اليقين ، ولا تحصل الإيمان المطلوب ، ولا تثبت بها عقيدة )) (6) ، وعللوا عدم إفادتها اليقين (( بأنّ الأدلة النقلية مجال واسع لاحتمالات كثيرة تحول دون هذا الإثبات )) . (7)
وهذا قول متهافت لا يحتاج أن يتعب الناظر نفسه في الردّ عليه ، إذ هو مخالف لإجماع الأمة ، وإذا كانت النصوص مجالاً واسعاً للاحتمال فكيف يكون كلام البشر ؟ وكيف لا تثبت العقائد بكلام الله ورسوله ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
4- وذهب فريق رابع إلى رفض الاحتجاج بأحاديث الآحاد الصحيحة في باب العقائد ، فلا يحتجون إلا بالقرآن أو المتواتر من الأحاديث ، ولا يثبتون العقيدة بالقرآن ، والحديث المتواتر إلا إذا كان النصّ قطعي الدلالة ( ، وإذا لم يكن النص قطعي الدلالة فإنّه لا يجوز الاحتجاج به عندهم .
قال بذلك علماء الكلام قديماً ، وتابعهم بعض علماء الأصول ، وقد انتشر هذا القول في أيامنا ، حتى كاد ينسى القول الحقّ ، ويستغرب من قائله . والعلماء قديماً وحديثاً كانوا ولا يزالون يبينون فساد هذا القول وخطورته ويكشفون شبهة القائلين به .
توضيح شبهة هؤلاء (9) :
بيّنا أنَّ شبهة هؤلاء زعمهم أنّ أدلة العقائد لا بدَّ أن تفيد اليقين ، وأحاديث الآحاد والنصوص القرآنية والأحاديث المتواترة إذا كانت دلالتهما غير قطعية لا تفيد اليقين ، بل هي ظنية ، والظنّ لا يجوز أن يحتج به في هذا المجال لقوله تعالى : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) [ النجم : 23 ] ، ولقوله : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) [ النجم : 28 ] ونحو ذلك من الآيات التي يذّم الله فيها المشركين لاتباعهم الظن .
واحتجاجهم بهذه الآيات وأمثالها مردود ، لأنّ الظنّ في الآيات ليس هو الظنّ الذي عنوه ، فإنّ النصوص التي ردّوها ورفضوا الاحتجاج بها في مسائل العقائد تفيد الظن الراجح ، والظن الذي ذمه الله في قوله : ( إن يتبعون إلا الظنَّ ) [ النجم : 23 ] هو الشك الذي هو الخرص والتخمين ، فقد جاء في (( النهاية )) و (( اللسان )) وغيرهما من كتب اللغة (( الظن : الشك يعرض لك في الشيء فتحققه وتحكم به )) .
هذا هو الظن الذي نعاه الله على المشركين ، ومما يؤيد ذلك قول الله فيهم ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) [ الأنعام : 116 ] فجعل الظن هو الخرص الذي هو مجرد الحزر والتخمين ، إذ لو كان الظن المنعي به على المشركين هو الظن الغالب فإنه لا يجوز الأخذ به في الأحكام أيضاً ، لأنّ الله أنكر على المشركين الأخذ بالظنّ إنكاراً مطلقاً ، ولم يخصه بالعقيدة دون الأحكام ، ولأنّ الله صرح في بعض الآيات أنّ الظنّ الذي أخذه على المشركين يشمل القول به في الأحكام أيضاً ، فاسمع إلى قوله تعالى الصريح في ذلك : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آبَاؤُنَا ) [ الأنعام : 148 ] وهذه عقيدة ، ( ولا حرمنا من شيءٍ ) [ الأنعام : 148 ] وهذا حكم ، ( كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) [ الأنعام : 148 ] .
ثم إننا لا نسلم لهم القول إنّ أحاديث الآحاد لا تفيد العلم ، بل قد تفيده ، يقول صديق حسن خان : " والخلاف في إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم تقيد بما إذا لم يضم إليه ما يقويه ، أما إذا انضم إليه ما يقويه أو كان مشهوراً أو مستفيضاً فلا يجري فيه الخلاف المذكور .
ولا نزاع في أنّ خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنّه يفيد العلم ، لأنّ الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه ، وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول ، فكانوا بين عامل به ومتأول له ، ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم ".
وقال العلامة السفاريني في (( لوامع الأنوار البهية )) :
" وخبر الآحاد إن كان مستفيضاً مشهوراً أفاد علماً نظرياً كما نقله العلامة ابن مفلح وغيره عن أبي إسحاق الأسفراييني وابن فورك ، وقيل يفيد القطع " .
ثم ذكر قولاً إن خبر الآحاد غير المستفيض يفيد الظن لاحتمال السهو والخطأ ، ولكنّه نقل عن الإمام الموفق ( ابن قدامة ) وابن حمدان والطوفي وجمع أنّه يفيد العلم بالقرائن .
قال العلامة علاء الدين عليّ بن سليمان المرداوي في شرح التحرير : " وهذا أظهر وأصح " وضبط القرائن يكون ( بسكون النفس إلى الخبر كسكونها إلى المتواتر أو قريب منه بحيث لا يبقى احتمال عنده ألبتة ) .
ونصَّ أيضاً على أنّ خبر الآحاد غير المستفيض يفيد العلم إذا نقله آحاد الأئمة المتفق عليهم وعلى إمامتهم وضبطهم .
ونقل عن القاضي أبي يعلى : " أنّ هذا هو المذهب ( مذهب الحنابلة ) ، وقال أبو الخطاب : هذا ظاهر كلام أصحابنا " .
وذكر السفاريني أن هذا القول اختاره ابن الزاغوني والإمام تقي الدين ابن تيمية ، ثم ذكر أن الذي عليه (( الأصوليون من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد – رضي الله عنهم أجمعين – أنّ خبر الواحد إذا تلقته الأمّة بالقبول تصديقاً وعملاً به يوجب العلم )).
ثم ذكر أنّ المخالفين في ذلك من أتباع الأئمة فرقة قليلة تابعت علماء الكلام ، وذكر أنّ ممن قال بإفادة خبر الآحاد العلم (( أبا إسحق وأبا الطيب ، وذكره عبد الوهاب وأمثاله من المالكية والسرخسي وأمثاله من الحنفية )) وقال : " وهو الذي عليه أكثر الفقهاء وأهل الحديث والسلف وأكثر الأشعرية وغيرهم " .
وقال ابن الصلاح : " ما أسنده البخاري ومسلم العلم اليقيني النظري واقع به ، خلافاً لقول من نفى ذلك محتجاً بأنّه لا يفيد في أصله إلا الظن ، وإنما تلقته الأمّة بالقبول ، لأنه يجب عليهم العمل بالظن ، قال : والظنّ قد يخطئ " .
قال ابن الصلاح : " وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً ، ثم بان لي أنّ المذهب الذي اخترناه أولاً هو الصحيح ، لأنّ ظنّ من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ " . وابن الصلاح يعني أن الأمة أجمعت على صحة أحاديث البخاري ومسلم .
قال السفاريني : " ولما وقف ابن كثير على اختيار ابن الصلاح من أنّ ما أسند في الصحيحين مقطوع بصحته ، قال : وأنا مع ابن الصلاح فيما نصّ عليه وأرشد عليه " .
ثم ذكر أنّ ابن كثير وقف على كلام لشيخه ابن تيمية مضمونة أنّه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات ، وبعد أن ذكر بعض أسمائهم قال : (أي ابن تيمية) " وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة " . (10)
والصواب من القول أن أحاديث الآحاد الصحيحة تفيد اليقين إذا احتفت بها قرائن ودلائل كما نقلنا ذلك عن جملة من أهل العلم ، فالأحاديث التي وردت في كتب السنة وصححها أهل العلم ولم يطعن في صحتها واحد منهم تفيد اليقين لإجماع الأمة على صحتها ، ومن ذلك ما اتفق عليه صاحبا الصحيحين أو ورد في واحد من الصحيحين ، ولم يطعن في صحته واحد من أهل العلم . ومن ذلك أن يكون الحديث مشهوراً أو مستفيضاً أو رواه الأئمة الكبار كمالك عن نافع عن ابن عمر .
خلاصة القول في المسألة : الصواب من القول أن علماء أهل السنة يقبلون أحاديث الآحاد الصحيحة في العقائد والأحكام من غير تفريق في ذلك ، يدلك على هذا تخريج أئمة أهل السنة كمالك وأحمد و البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي والدارمي وغيرهم للأحاديث المثبتة للعقائد في مدوناتهم ، والمتواتر منها قليل ، ولو لم يرتضوا الاستدلال بها لما أتعبوا أنفسهم في روايتها وضبطها وتدوينها ، ومن قال عنهم خلاف ذلك فإنه قد افترى عليهم ، ولا دخل لكون الأحاديث الآحاد تفيد الظن الراجح أو اليقين في المسألة .
فالذين يقولون لا تفيد اليقين يرون الأخذ بها في العقائد إذا صحت ولا تلازم بين إفادتها الظن وردها في باب الاعتقاد .
فابن عبد البر رحمه الله تعالى مع قوله إنّ أخبار الآحاد لا تفيد اليقين إلا أنه يرى أنه يجب الأخذ بها في العقائد كما يؤخذ بها في الأحكام ، وينسب ذلك إلى جماعة أهل السنة
هل نؤمن بعذاب القبر ، وبالحوض والميزان وأمثال ذلك من الأمور الاعتقادية ؟ وما الذي يجعلنا نؤمن بذلك أو ننفيه ؟
1- يرى علماء السلف الصالح أنّ كلّ ما أخبرنا الله به ، أو أخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم ، ووصل إلينا بطريق صحيح ، يجب الإيمان به وتصديقه . وهم لا يفرقون بين الخبر المتواتر وخبر الآحاد (2) ، إذا كان صحيحاً ، بل يثبتون العقائد بهما من غير تفريق .
ويستدلون على ذلك بالأدلة العامة التي تأمرنا بتصديق الله ورسوله فيما أخبرا به وطاعتهما فيما أمرا به مثل قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) [ الأحزاب : 36 ] وقوله : ( قل أطيعوا الله والرسول ) [ آل عمران : 32 ] .
2- واحتجّت طائفة ممن ضعف معرفتها بالصحيح والضعيف من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الموضوعة والضعيفة (3) في هذا الباب ومن أمثال هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة :
حديث (( انتهيت إلى ربي ليلة أسري بي إلى السماء ، فرأيتُ ربي ، بيني وبينه حجاب بارزٌ ، فرأيت كل شيء منه ، حتى رأيت تاجاً مخوصاً من اللؤلؤ )) . حديث موضوع . (4)
حديث : ( إنّ الله يَجلسُ على القَنطرةِ الوسْطى بين الجنة والنار ) . (5)
ويجب التحقق من الأحاديث قبل الاحتجاج بها سواء في العقيدة أو الأحكام ، وإلا فإنّ النتيجة أنْ ننسب إلى دين الله ما ليس منه ، ونقرر أموراً اعتقادية باطلة .
ومثل الذين يثبتون العقائد بالأحاديث الضعيفة والموضوعة أولئك الذين يثبتونها بالمنامات والخرافات والأساطير .
3- ورفضت طائفة ثالثة الاحتجاج بالأدلة النقلية أي بالنصوص القرآنية والحديثية في إثبات العقائد ، وقد زعموا أنّ (( الأدلة النقلية لا تفيد اليقين ، ولا تحصل الإيمان المطلوب ، ولا تثبت بها عقيدة )) (6) ، وعللوا عدم إفادتها اليقين (( بأنّ الأدلة النقلية مجال واسع لاحتمالات كثيرة تحول دون هذا الإثبات )) . (7)
وهذا قول متهافت لا يحتاج أن يتعب الناظر نفسه في الردّ عليه ، إذ هو مخالف لإجماع الأمة ، وإذا كانت النصوص مجالاً واسعاً للاحتمال فكيف يكون كلام البشر ؟ وكيف لا تثبت العقائد بكلام الله ورسوله ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .
4- وذهب فريق رابع إلى رفض الاحتجاج بأحاديث الآحاد الصحيحة في باب العقائد ، فلا يحتجون إلا بالقرآن أو المتواتر من الأحاديث ، ولا يثبتون العقيدة بالقرآن ، والحديث المتواتر إلا إذا كان النصّ قطعي الدلالة ( ، وإذا لم يكن النص قطعي الدلالة فإنّه لا يجوز الاحتجاج به عندهم .
قال بذلك علماء الكلام قديماً ، وتابعهم بعض علماء الأصول ، وقد انتشر هذا القول في أيامنا ، حتى كاد ينسى القول الحقّ ، ويستغرب من قائله . والعلماء قديماً وحديثاً كانوا ولا يزالون يبينون فساد هذا القول وخطورته ويكشفون شبهة القائلين به .
توضيح شبهة هؤلاء (9) :
بيّنا أنَّ شبهة هؤلاء زعمهم أنّ أدلة العقائد لا بدَّ أن تفيد اليقين ، وأحاديث الآحاد والنصوص القرآنية والأحاديث المتواترة إذا كانت دلالتهما غير قطعية لا تفيد اليقين ، بل هي ظنية ، والظنّ لا يجوز أن يحتج به في هذا المجال لقوله تعالى : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) [ النجم : 23 ] ، ولقوله : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) [ النجم : 28 ] ونحو ذلك من الآيات التي يذّم الله فيها المشركين لاتباعهم الظن .
واحتجاجهم بهذه الآيات وأمثالها مردود ، لأنّ الظنّ في الآيات ليس هو الظنّ الذي عنوه ، فإنّ النصوص التي ردّوها ورفضوا الاحتجاج بها في مسائل العقائد تفيد الظن الراجح ، والظن الذي ذمه الله في قوله : ( إن يتبعون إلا الظنَّ ) [ النجم : 23 ] هو الشك الذي هو الخرص والتخمين ، فقد جاء في (( النهاية )) و (( اللسان )) وغيرهما من كتب اللغة (( الظن : الشك يعرض لك في الشيء فتحققه وتحكم به )) .
هذا هو الظن الذي نعاه الله على المشركين ، ومما يؤيد ذلك قول الله فيهم ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) [ الأنعام : 116 ] فجعل الظن هو الخرص الذي هو مجرد الحزر والتخمين ، إذ لو كان الظن المنعي به على المشركين هو الظن الغالب فإنه لا يجوز الأخذ به في الأحكام أيضاً ، لأنّ الله أنكر على المشركين الأخذ بالظنّ إنكاراً مطلقاً ، ولم يخصه بالعقيدة دون الأحكام ، ولأنّ الله صرح في بعض الآيات أنّ الظنّ الذي أخذه على المشركين يشمل القول به في الأحكام أيضاً ، فاسمع إلى قوله تعالى الصريح في ذلك : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آبَاؤُنَا ) [ الأنعام : 148 ] وهذه عقيدة ، ( ولا حرمنا من شيءٍ ) [ الأنعام : 148 ] وهذا حكم ، ( كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) [ الأنعام : 148 ] .
ثم إننا لا نسلم لهم القول إنّ أحاديث الآحاد لا تفيد العلم ، بل قد تفيده ، يقول صديق حسن خان : " والخلاف في إفادة خبر الآحاد الظن أو العلم تقيد بما إذا لم يضم إليه ما يقويه ، أما إذا انضم إليه ما يقويه أو كان مشهوراً أو مستفيضاً فلا يجري فيه الخلاف المذكور .
ولا نزاع في أنّ خبر الواحد إذا وقع الإجماع على العمل بمقتضاه فإنّه يفيد العلم ، لأنّ الإجماع عليه قد صيره من المعلوم صدقه ، وهكذا خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول ، فكانوا بين عامل به ومتأول له ، ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم ".
وقال العلامة السفاريني في (( لوامع الأنوار البهية )) :
" وخبر الآحاد إن كان مستفيضاً مشهوراً أفاد علماً نظرياً كما نقله العلامة ابن مفلح وغيره عن أبي إسحاق الأسفراييني وابن فورك ، وقيل يفيد القطع " .
ثم ذكر قولاً إن خبر الآحاد غير المستفيض يفيد الظن لاحتمال السهو والخطأ ، ولكنّه نقل عن الإمام الموفق ( ابن قدامة ) وابن حمدان والطوفي وجمع أنّه يفيد العلم بالقرائن .
قال العلامة علاء الدين عليّ بن سليمان المرداوي في شرح التحرير : " وهذا أظهر وأصح " وضبط القرائن يكون ( بسكون النفس إلى الخبر كسكونها إلى المتواتر أو قريب منه بحيث لا يبقى احتمال عنده ألبتة ) .
ونصَّ أيضاً على أنّ خبر الآحاد غير المستفيض يفيد العلم إذا نقله آحاد الأئمة المتفق عليهم وعلى إمامتهم وضبطهم .
ونقل عن القاضي أبي يعلى : " أنّ هذا هو المذهب ( مذهب الحنابلة ) ، وقال أبو الخطاب : هذا ظاهر كلام أصحابنا " .
وذكر السفاريني أن هذا القول اختاره ابن الزاغوني والإمام تقي الدين ابن تيمية ، ثم ذكر أن الذي عليه (( الأصوليون من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد – رضي الله عنهم أجمعين – أنّ خبر الواحد إذا تلقته الأمّة بالقبول تصديقاً وعملاً به يوجب العلم )).
ثم ذكر أنّ المخالفين في ذلك من أتباع الأئمة فرقة قليلة تابعت علماء الكلام ، وذكر أنّ ممن قال بإفادة خبر الآحاد العلم (( أبا إسحق وأبا الطيب ، وذكره عبد الوهاب وأمثاله من المالكية والسرخسي وأمثاله من الحنفية )) وقال : " وهو الذي عليه أكثر الفقهاء وأهل الحديث والسلف وأكثر الأشعرية وغيرهم " .
وقال ابن الصلاح : " ما أسنده البخاري ومسلم العلم اليقيني النظري واقع به ، خلافاً لقول من نفى ذلك محتجاً بأنّه لا يفيد في أصله إلا الظن ، وإنما تلقته الأمّة بالقبول ، لأنه يجب عليهم العمل بالظن ، قال : والظنّ قد يخطئ " .
قال ابن الصلاح : " وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً ، ثم بان لي أنّ المذهب الذي اخترناه أولاً هو الصحيح ، لأنّ ظنّ من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ " . وابن الصلاح يعني أن الأمة أجمعت على صحة أحاديث البخاري ومسلم .
قال السفاريني : " ولما وقف ابن كثير على اختيار ابن الصلاح من أنّ ما أسند في الصحيحين مقطوع بصحته ، قال : وأنا مع ابن الصلاح فيما نصّ عليه وأرشد عليه " .
ثم ذكر أنّ ابن كثير وقف على كلام لشيخه ابن تيمية مضمونة أنّه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات ، وبعد أن ذكر بعض أسمائهم قال : (أي ابن تيمية) " وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة " . (10)
والصواب من القول أن أحاديث الآحاد الصحيحة تفيد اليقين إذا احتفت بها قرائن ودلائل كما نقلنا ذلك عن جملة من أهل العلم ، فالأحاديث التي وردت في كتب السنة وصححها أهل العلم ولم يطعن في صحتها واحد منهم تفيد اليقين لإجماع الأمة على صحتها ، ومن ذلك ما اتفق عليه صاحبا الصحيحين أو ورد في واحد من الصحيحين ، ولم يطعن في صحته واحد من أهل العلم . ومن ذلك أن يكون الحديث مشهوراً أو مستفيضاً أو رواه الأئمة الكبار كمالك عن نافع عن ابن عمر .
خلاصة القول في المسألة : الصواب من القول أن علماء أهل السنة يقبلون أحاديث الآحاد الصحيحة في العقائد والأحكام من غير تفريق في ذلك ، يدلك على هذا تخريج أئمة أهل السنة كمالك وأحمد و البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي والدارمي وغيرهم للأحاديث المثبتة للعقائد في مدوناتهم ، والمتواتر منها قليل ، ولو لم يرتضوا الاستدلال بها لما أتعبوا أنفسهم في روايتها وضبطها وتدوينها ، ومن قال عنهم خلاف ذلك فإنه قد افترى عليهم ، ولا دخل لكون الأحاديث الآحاد تفيد الظن الراجح أو اليقين في المسألة .
فالذين يقولون لا تفيد اليقين يرون الأخذ بها في العقائد إذا صحت ولا تلازم بين إفادتها الظن وردها في باب الاعتقاد .
فابن عبد البر رحمه الله تعالى مع قوله إنّ أخبار الآحاد لا تفيد اليقين إلا أنه يرى أنه يجب الأخذ بها في العقائد كما يؤخذ بها في الأحكام ، وينسب ذلك إلى جماعة أهل السنة