الفرق بين العقيدة الإسلامية والفلسفة وعلم الكلام
على الرغم من أنّ الموضوع الذي تعالجه الفلسفة هو الموضوع ذاته الذي يعالجه الدين ، إذ يزعم الفلاسفة أنّ مباحثهم تهدف إلى معرفة أصل الوجود وغايته ، ومعرفة السبيل الذي يحقق السعادة الإنسانية عاجلاً وآجلاً ، وهذان هما موضوع علم الفلسفة بقسميها العلمي والعملي ، وهما كذلك موضوع علم الدين (1) – أقول على الرغم من ذلك إلا أنّ الاختلاف بين الدّين والفلسفة اختلاف كبير . فهما يختلفان في المصادر والمنابع ، وفي المنهج والسبيل ، وفي قوة التأثير والسيطرة ، وفي الأسلوب وطريقة الاستدلال ، وفي آثار كل منهما . وسنحاول أن نبين ذلك كله حتى يزول هذا الخلط بين الدين والفلسفة .
1- المصادر والمنابع :
الفلسفة في كل صورها (( عمل إنساني )) يتحكم فيه كل ما في طبيعة الإنسان من قيود وحدود وتدرج بطيء في الوصول إلى المجهول ، وقابلية للتغير والتحول ، وتقلب بين الهدى والضلال ، واقتراب أو ابتعاد عن درجة الكمال .
ولذا فإن أساطين الفلسفة لم يستطيعوا أن يتخلّصوا من التأثر بالبيئة ، فكانت تصوراتهم ومعتقداتهم فيها صدى كبير لما يحيط بهم . (2)
ولنأخذ على ذلك مثلاً ( أفلاطون ) فإنّا إذا درسنا نتاجه رأيناه يردد الأساطير التي سادت في عصره ، بل إنّه ينشئ الأسطورة ، ويضمنها أفكاره ومعتقداته ، بل إن كثيراً من معتقداته وآرائه هي أساطير في ذاتها .
اسمع ما يقوله العقاد في ( أفلاطون ) : " غلبت البيئة الوثنية أفلاطون على تفكيره بحكم العادة وتواتر المحسوسات ، فأدخل في عقيدته أرباباً ، وأنصاف أرباب لا محل لها في ديانات التوحيد " . (3)
ثم يعرض العقاد نظرية أفلاطون في الوجود تدليلاً على ما يقول : " فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان : طبقة العقل المطلق ، وطبقة المادة الأولية أو (الهيولي) ، والقدرة كلها من العقل المطلق ، والعجز كله من (الهيولي) ، وبين ذلك كائنات على درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل ، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي ، وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب ، وبعضها أنصاف أرباب ، وبعضها نفوس بشرية " . (4)
والسبب الذي من أجله ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة كما يقول العقاد " إنه أراد أن يعلل بها ما في العالم من شرّ ونقص وألم ، فإنّ العقل المطلق كمال لا يحدّه الزمان والمكان ، ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة ، فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق لتوسطها بين الإله القادر (( والهيولي )) العاجز ، فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين " . (5)
ومن المعروف أيضاً أن أفلاطون يؤمن بعقيدة تناسخ الأرواح .
هذه هي الفلسفة في مصادرها .
أما العقيدة الإسلامية فهي وحي من الله ، له كلّ ما للإلهيات من ثبات الحقّ الذي لا تبديل لكلماته ، وصرامة الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم هو فوق ذلك (( منحة كريمة )) تصل إلى حامليها وسفرائها عفواً بلا كدح ولا نصب ، وتغمرهم بنورها في فترات خاطفة كلمح البصر أو هو أقرب . (6)
2- المنهج والسبيل (7) :
يختلف المنهج الفلسفي عن المنهج الإسلامي في خط سير كلّ منهما بداية ونهاية ، فالفلاسفة كثير منهم يبدؤون بدراسـة النفس الإنسانية ، ويجعلونها الأصل الذي يبنون عليه ، ويفرعون عنه ، فتكلموا في إدراكهم للعلم : وأنه تـارة يكون بالحسّ ، وتارة بالعقل ، وتارة بهما .
وجعلوا العلوم الحسيّة ، والبدهية ونحوها : هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها ، ثم زعموا أنهم إنما يدركون بذلك الأمور القريبة منهم ، من الأمور الطبعية والحسابية ، والأخلاق ، فجعلوا هذه الثلاثة هي الأصول التي يبنون عليها سائر العلوم ، ولهذا يمثلون ذلك في أصول علم الكلام ، بأن الواحد نصف الاثنين ، وأن الجسم لا يكون بمكانين ، وأن الضدّين – كالسواد والبياض – لا يجتمعان .
وكثير من هؤلاء لا يجعلون الأخلاق مثل : العدل ، والعفّة من الأصول ، بل من الفروع التي تفتقر إلى الدليل .
وكثير من المصنفين في الفلسفة يبتدئ بالمنطق ، ثم الطبيعي والرياضي ، ثم ينتقل إلى العلم الإلهي ، وتجد المصنفين في الكلام يبدؤون بمقدماته في الكلام : في النظر والعلم والدليل ، وهو من جنس المنطق ، ثم ينتقلون إلى حدوث العالم وإثبات مُحدثِه ، ومنهم من ينتقل من تقسيم المعلومات إلى الموجود والمعدوم وأقسامه ، كما يفعله الفيلسوف في أول العلم الإلهي .
وغالبية الفلاسفة يتوسعون في الأمور الطبعية ، ثم يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها ، ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب الوجود ، وإلى العقول والنفوس ، ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداء من جهة أن الوجود لا بدّ فيه من واجب .
وأما الغاية التي يرمي إليها المتكلمون الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر هي إثبات وحدانية الخالق ، وأنّه لا شريك له ، ويظنون أنّ هذا هو المراد بـ ( لا إله إلا الله ) .
هذا المنهج الفلسفي الكلامي يشغل الباحث والناظر فيه في قضايا ينقضي العمر ، ولا ينتهي من بعضها ، بل إنّ الذي يحصّله منها ينطوي على شبهـات تجعل اليقين غير موجود ، فيصاب الباحث بالحيرة والشك .
أما المنهج القرآني ، فإنّه يجعل فاتحة دعوته ودعوة الرسل جميعاً : الدعوة إلى عبادة الله وحده ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] وكلّ رسول كان يطلب قومه في أول الأمر بأن يعبدوا الله وحده ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [ المؤمنون : 23 ] يطالبهم بعبادته بالقلب ، وعبادته باللسان ، وعبادته بالجوارح ، وعبادة الله متضمنة لمعرفته وذكره .
وأصل العلم عندهم هو العلم بالله سبحانه ، لا الحس ولا البدهيات فالله هو الأول الذي خلق الكائنات ، والآخر الذي إليه تصير الحادثات ، فهو الأصل الجامع ، والعلم به أصل كل علم وجامعه ، وذكره أصل كل ذكر وجامعه ، والعمل له أصل كل عمل وجامعه .
ومن العلم به تتشعب أنواع العلوم ، ومن عبادته وقصده تتشعب وجوه المقاصد الصالحة ، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق ، واعتصم بالدليل الهادي ، والبرهان الوثيق ، فلا يزال إما في زيادة في العلم والإيمان ، وإما في السلامة عن الجهل والكفران ، فالعلم بالله أعظم سبيل لمعرفة الله ، ومعرفة الحياة والأشياء ، ومعرفة النفس الإنسانية .
يقول ابن أبي حاتم : " عرفنا كل شيء بالله " . وسئل ابن عباس : بم عرفت ربك ؟ قال : " من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس ، ظاعناً ( في الاعوجاج ، زائغاً (9) عن المنهج ، أعرفه بما عرّف به نفسه ، وأصفه بما وصف به نفسه " .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً حين أرسله إلى اليمن للدعوة إلى الله : أنّه سيقدم على قوم أهل كتاب وأوصاه أن يكون أول ما يدعوهم إليه عبادة الله ، فإذا عرفوا ذلك فيدعوهم إلى الفرائض ، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم أولاً إلى الشك ، أو النظر ، أو القصد إلى النظر كما هي طريقة بعض المتكلمين .
ولذا ابتدأ البخاري كتابه بالأصل الذي يقوم عليه العلم والإيمان ألا وهو الوحي ، فعقد كتاباً عنون له بـ ( بدء نزول الوحي ) ، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً ، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به ، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به ، فرتبه الترتيب الحقيقي الذي يدل على علمه وحكمته رحمه الله .
والله عندما يبعث الناس لا يسألهم عن العلوم الحسية والبدهية ، والمنطق والطبعي ، بل يسألهم عن استجابتهم للرسل أو عدمها ( كلما ألقى فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذيراً – قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيءٍ إن أنتم إلا في ضلال كبير – وقالوا لو كنَّا نسمع أو نعقل ما كنَّا في أصحاب السعير – فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ) [ الملك : 8-11 ] ، والحجة لا تقوم على الناس إلا ببعثه الرسل ( وما كنَّا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ الإسراء : 15 ] .
وكما أن الدعوة إلى الله هي نقطة البداية في المنهاج القرآني ، ومعرفة الله هي الأصل الذي تتفرع منه العلوم ، فإن نقطة النهاية أيضاً عبادة الله المتضمنة معرفته وتوحيده . أما مجرد الإقرار بوحدانية الخالق وإفراد الصانع التي هي نهاية مطلوب علماء الكلام ، فإنها – على الرغم من أهميتها – جزئية في المنهج القرآني لا يكفي مجرد الإقرار بها ، ولذا لم تنفع المشركين الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع إقرارهم بذلك ( ولئِن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله ) [ لقمان : 25 ] . ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم – سيقولون الله ) [ المؤمنون : 86-87 ] .
أما الفلاسفة الذين بحثوا في العقول والنفوس فهم يخبطون في هذا المجال خبطاً لا قرار له ، وحسبك دليلاً على ذلك أن التقدم العلمي الهائل في هذا العصر لم يكشف لنا حقيقة النفس الإنسانية (( ولقد بذل الجنس البشري مجهوداً جباراً لكي يعرف نفسه ، ولكن على الرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظات التي كدسها الفلاسفة والعلماء والشعراء وكبار الروحانيين في جميع الأزمان إلا أننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا ، إننا لا نفهم الإنسان ككل ، ... إننا نعرفه على أنّه مكون من أجزاء مختلفة ، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا ! فكل واحد منا مكوّن من موكب من الأشباح ، تسير في وسطها حقيقة مجهولة .
وواقع الأمر أنّ جهلنا مطبق ، فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب ، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنة ما زالت غير معروفة )) . (10)
إذا كانت هذه هي المعرفة التي بلغتها الأبحاث في القرن العشرين ، فكيف تجعل النفس الإنسانية هي الأصل الذي يتفرع عنه مختلف العلوم ، أمّا المعرفة بما وراء الطبيعة فإن الفلسفة ضلت فيها ضلالاً أبعد وأبين .
3- قوة التأثير (11) :
العقيدة تمتاز بسلطان قوي قاهر على نفوس معتنقيها ، وليس للفلسفة أن تطمح إلى نيل هذه الميزة ، وإلا لجاوزت قدرها ، وتناقضت في نفسها ، والسبب في ذلك أنّ الفلسفة تبحث عن المعرفة والحقيقة بقدر الطاقة البشرية ، ثم تعرض ما تظفر به في جوانب تلك الحقيقة ، والفيلسوف هو أول من يعرف قصور العقل البشري ، وقصور كل ما هو إنساني عن درجة الكمال ، ولذلك كان التسامح والتواضع العلمي من أظهر خصائصه ، فسقراط وهو مَنْ هو بين الفلاسفة يقول : " الشيء الذي لا أزال أعلمه جيداً هو أنني لست أعلم شيئاً " .
أما صاحب العقيدة فيرى أنّ عقيدته التي يحملها مستمدة من العالم بسر الوجود الذي أحاط بكل شيء علماً ، فهي تمثل الحقيقة بلا غبش .
فهي بطبيعتها ملزمة ، تتقاضى صاحبهـا الخضوع والتسليم ، ولا تقبل منه في حكمها جدالاً ولا مناقضة ، بل لا تبيح له في نفسها بحثاً ولا ترديداً ، فإن فعل ذلك في مسألة ما ، كان في هذه المسألة بعينها متفلسفاً غير متدين ، حتى يستقرّ فيها على رأي معين يدين به ، فهنالك لا يقبل فيه مساومة ، ولا يستطيع منه تحللاً ، إذ يصبح عقيدة يخلص لها إخلاصاً خارقاً للعادة ، حتى لا يبالي بأن يضحّي في سبيلها بحياته ، ولا نكاد نجد هذا السلطان على النفس لفكرة أخرى : علمية أو سياسية أو غيرها .
ويبين الشيخ محمد عبد الله دراز السر في هذه الظاهرة فيقول : " السر في هذه الظاهرة – وهي قوة سلطان العقيدة وتميزها بذلك عن الفلسفة – يتمثل في الفارق بين حقيقة المعرفة وحقيقة الإيمان ، وفي الفرق بين القوة النفسية التي تقوم بوظيفة المعرفة ، والقوة النفسية التي تقوم بوظيفة الإيمان . فالواحد من الناس قد يدرك معنى الجوع والعطش وهو غير محس بآلامهما ، وقد يفهم معنى الحبّ والشوق ، وليس من أهلهما ، وقد يرى الأثر الفني البارع فيفهم أسراره ، ويقف على دقائق صنعه ، ولكنه لا يتذوقه ، ولا يتملك قلبه الإعجاب به ....
هذه ضروب من المعرفة والعلم ، يهديها إلينا الحس ، أو الفكر ، أو البديهة ، فتلاحظها النفس ، وكأنها غريبة عنها ، أو تمرّ بها عابرة ، فتمسها مساً جانبياً لا يبلغ إلى قرارتها ، أو تختزنها وتدخرها ، ولكنها لا تهضمها ولا تتمثلها ، وكل حالة نفسية تقف بالأفكار والمبادئ عند هذه المراحل فليست من الإيمان في قليل ولا كثير .
الإيمان معرفـة تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير ، وتختلط مادتها بشغاف القلوب ، فلا يجد الصدر منها شيئاً من الضيق والحرج ، بل تحس النفس ببرد اليقين ، الإيمان تذوق ووجدان يحمل الفكرة من سماء العقل إلى قرارة القلب ، فيجعلها للنفس رياً وغذاء يدخل في كيانها ، ويصبح عنصراً من عناصر حياتها ، الإيمان يحول الفكرة قوة دافعة فعّالة خلاقة ، لا يقف في سبيلها شيء في الكون إلا استهانت به .
هذا هو فصل ما بين الدين والفلسفة ، غاية الفلسفة المعرفة ، وغاية الدّين الإيمان ، مطلب الفلسفة فكرة جافة ترتسم في صورة جامدة ، ومطلب الدين روح وثّابة وقوة محركة .
ويلاحظ دراز أن الفلسفة تعمل في جانب واحد من جوانب النفس ، بينما الدين يستحوذ على النفس بجملتها ، وأن الفلسفة ملاحظة وتحليل وتركيب ، فهي صناعة تقطع أوصال الحقيقة وتزهق روحها ، ثم تؤلف بينها لتعرضها من جديد في نسق صناعي على مرآة الفطنة ، فتنطبع سطح النفس قشرة يابسة ، أما الدّين فهو حداء ونشيد يحمل الحقيقة جملة ، فيعبر بها القشرة السطحية ، لينفذ منها إلى أعماق القلوب وأغوارها ، فتعطيها النفس كليتها وتملكها زمامها .
وهنا يستنبط دراز فرقاً دقيقاً بين الفلسفة والدين : فيلاحظ أنّ غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العملي ، وغاية الدّين عملية ، حتى في جانبه العلمي ، فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما ، وأين هما ؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحقّ الذي تعرفه ، والخير الذي تحدّده ، أما الدّين فيعرفنا الحقّ لا لنعرفه فحسب ، بل لنؤمن به ونحبه ونمجّده ، ويعرفنا الواجب لنؤدّيه ونوفيه ، ونكمل نفوسنا بتحقيقه .
وكي يزيد الأمر إيضاحاً قارن بين الآثار العملية الدينية والفلسفية ، وبَيّنَ دراز أنّ الدّين يلفت النظر كي يتعرف الإنسان إلى خالقه ، ويتوجه إليه ، ويحبّه ويُقدّسه ، على أنّ غاية الفلسفة مجرد المعرفة التي تربط بين الأسباب والمسببات .
وبين أنّ العقيدة تتدفق في الميدان الاجتماعي ، فهي تهز صاحبها لتحقيق أهدافها بالنشر والدعوة ، بينما الفلسفة لا يعنيها التوسع والانتشار ، بل قد يضنّ بها أصحابها على غيرهم ، فيحتكرونها ، ويستأثرون بها .
4- الأسلوب (12) :
الأسلوب الذي صيغت به العقيدة الإسلامية أسلوب خاص يمتاز بالحيوية والإيقاع ، واللمسة المباشرة والإيحاء ، الإيحاء بالحقائق الكبيرة التي لا تتمثل كلها في العبارة ، ولكن توحي بها العبارة ، كما يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها ، ولا تخاطب الفكر وحده في الكائن البشري .
أما الفلسفة فلها أسلوب آخر ، إذ هي تحاول أن تحصر الحقيقة في العبارة ، ولما كان نوع الحقيقة التي يتصدى لها يستحيل أن تنحصر في منطوق العبارة – فضلاً على أنّ جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها أكبر من المجال الذي يعمل فيه الفكر البشري – فإنّ الفلسفة تنتهي حتماً إلى التعقيد والتخليط والجفاف ، ومن هنا لا يجوز أن تُعرض العقيدة الإسلامية بأسلوب الفلسفة ، لأنه يقتلها ويطفئ إشعاعها وإيحاءها ، ويقصرها على جانب واحد من جوانب الكينونة الإنسانية .
ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها ، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها ، ومسلك القرآن في بيان العقيدة الإسلامية مُتّسم بالبساطة والوضوح يجعل إدراكها سهلاً ميسراً لكافة مستويات النّاس على اختلاف مداركهم وفِطرهم ، يأخذ كل حسب طاقته من التفكير والاقتناع ، بخلاف تلك الأساليب الفلسفية والكلاميـة المعقدة الممتلئة بالمصطلحات ، إذ لا يدرك محتوياتها إلا القليل من الناس .
5- طريقة الاستدلال :
وفي هذا الجانب يتميّز القرآن في ما جـاء به من الأدلة عن الطريقة الفلسفية الكلامية ، ويمكن أن نوضح هذه الفروق في النقاط التالية :
أ- استدل القرآن بالآيات المشهودة ( الكونية ) على وحدانية الخالق ، وكذلك الفلاسفة والمتكلمون ، ولكنّ طريقة القرآن مخالفة للطريقة الفلسفية الكلامية ، فالقرآن يستدل بالآيات نفسها التي يستلزم العلم بها العلم بصانعها ، كاستلزام العلم بشعاع الشمس العلم بالشمس من غير احتجاج إلى إقامة الأقيسة التي أقامها المتكلمون للاستدلال على حدوث العالم .
فالعلم بكون هذه العوالم مخلوقة مربوبة أمر فطري لا يحتاج إلى إقامة الدليـل والبرهان ، فالإنسان يعلم بفطرته أنّ هذا الكون الذي يراه فقير إلى الخالق ، مقهور مربوب ، وهذا لا يحتاج إلى تلك الأقيسة التي أقاموها ، كي نعلم حدوث العالم ، وأن له مُحدثاً .
قال تعالى : ( أو لم ير الذين كفروا أن السَّماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون – وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون – وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آيَاتِهَا معرضون – وهو الذي خلق اللَّيْلَ والنَّهار والشمس والقمر كل في فلكٍ يسبحون ) [ الأنبياء : 30-33 ] .
ب- الأدلة العقلية (13) التي جاء بها القرآن لائقة بجلال الله وكماله ، فلم يستعمل القرآن قياس الشمول وقياس التمثيل الذي تستوي أفراده في حقّ الله تعالى ، لأنه يلزم منهما تسوية الخالق بالمخلوق .
وإنما يستعمل في حقه تعالى قياس الأولى الذي مضمونه أنّ كلّ كمال وجودي غير مستلزم للعدم ولا للنقص بوجه من الوجوه اتصف المخلوق به ، فالخالق أوْلى أنْ يتصف به ، لأنّه هو الذي وهب المخلوق ذلك الكمال ، ولأنّه لو لم يتصف بذلك الكمال مع إمكان أن يتصف به ، لكان في الممكنات من هو أكمل منه وهو محال ، قال تعالى : ( ولله المثل الأعلى ) [ النحل : 60 ] .
وكلّ نقص ينزّه عنه المخلوق ، فالخالق أولى بالتنزه عنه .
ج- ونلاحظ أيضاً أن الأدلة العقلية القرآنية تدلّ على الحقّ بأبلغ عبارة وأوجزها ، أمّا الأدلة العقلية الكلامية والفلسفية فكثير منها لا ينهض للاستدلال به ، وضعف الدليل الذي يستدّل به على الحقّ يؤدي إلى كثرة الشك والاضطراب والحيرة ، بل قد يؤدي إلى ردّ الحق ، إذ يسهل على الخصم بيان عوار الدليل ، فإذا ردّه ردّ الحقّ مع أنّ الحق قويّ في ذاته ، والضعف إنّما هو في الدليل الموصل إليه ، لأجل ذلك نجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول ، وجزماً بالقول في موضع وبنقيضه في موضع آخر ، بل يكفّرون بقولٍ ما ، وهم ممن قال به في مكان آخر ، بخلاف أدلة الكتاب والسنة فإنّ أصحابها مستقرون عليها ، آخذون بها ، لا يتلجلجون ، ولا يضطربون . (14)
د- ونلاحظ أنّ بعض أدلة المتكلمين يلزم منها لوازم باطلة ، إذ يلزم من بعضها ردّ الحق الثابت في الكتاب والسنة .
فقد ردّوا النصـوص التي تدّل على أنّ الله في السماء بدعوى أنّ الله لا يكون في جهة ، لأنّ كونه في جهة يُعدّ تحيّزاً ، مع أنّ النصوص صريحة في كونه تعالى في السماء ، وخطؤهم أنّهم ظنوا أنّ معنى كونه في السماء : أنّ السماء تحويه ، وأخطؤوا أيضاً عندما طبقوا المقاييس البشرية على الذات الإلهية .
6-الجنى والعطاء :
ومن الفُروق أيضاً أن القرآن يعطي إيماناً مفصّلاً كما قال جندب بن عبد الله : " تعلمنا الإيمان ، ثم تعلمنا القرآن ، فازددنا إيماناً " .
فالقرآن يصف لنا ربنا ، وأن له وجهاً ويداً وسمعاً وبصراً ، ويعدّد لنا أسمـاءه وصفاته : فهو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ...... ، ويعرفنا بأفعاله ومخلوقاته ، ويصف لنا القيامة وأهوالها والجنة والنار كأننا نراهما .
أما طريقة المتكلمين فإنّ غاية ما عندهم إيمان مجمل ، لا يعطي علماً وافياً ، ولا تصوراً واضحاً .
لا لقاء :
لا لقاء بين الدّين والفلسفة فهما منهجان مختلفان : في البداية والنهاية ، والطريقة والأسلوب ، وفي التأثير والعطاء ، وقبل ذلك كلّه في المنابع والمصادر .
والإسلام لا يحتاج إلى من يكمله ، فقد أكمله العليم الخبير ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) [ المائدة : 3 ] ، ولا نحتاج إلى أن نوفّق بينـه وبين الفلسفة ، ولا بينه وبين اليهودية والنصرانية ، ولا بينه وبين الشيوعية والاشتراكية ، فالإسلام حق لا باطل فيه ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) [ فصلت : 42 ] وغيره إمّا باطل ، وإما حق مخلوط بباطل ، والإسلام ما جاء لتحكمه أفكار البشر ، وإنما جاء ليهيمن على الحياة والأحياء ، ويقوّم المعوجّ من العقائد والأفكار .
يجب علينا أن نبقي عقيدتنا وشريعتنا متميزة صافية نقية كما يريد ربنا ( قد تبين الرشد من الغيّ ) [ البقرة : 256 ] وإن خلطها بغيرها يؤدي إلى اللبس الذي عابه الله على أهل الكتاب ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ) [ آل عمران : 71 ]
على الرغم من أنّ الموضوع الذي تعالجه الفلسفة هو الموضوع ذاته الذي يعالجه الدين ، إذ يزعم الفلاسفة أنّ مباحثهم تهدف إلى معرفة أصل الوجود وغايته ، ومعرفة السبيل الذي يحقق السعادة الإنسانية عاجلاً وآجلاً ، وهذان هما موضوع علم الفلسفة بقسميها العلمي والعملي ، وهما كذلك موضوع علم الدين (1) – أقول على الرغم من ذلك إلا أنّ الاختلاف بين الدّين والفلسفة اختلاف كبير . فهما يختلفان في المصادر والمنابع ، وفي المنهج والسبيل ، وفي قوة التأثير والسيطرة ، وفي الأسلوب وطريقة الاستدلال ، وفي آثار كل منهما . وسنحاول أن نبين ذلك كله حتى يزول هذا الخلط بين الدين والفلسفة .
1- المصادر والمنابع :
الفلسفة في كل صورها (( عمل إنساني )) يتحكم فيه كل ما في طبيعة الإنسان من قيود وحدود وتدرج بطيء في الوصول إلى المجهول ، وقابلية للتغير والتحول ، وتقلب بين الهدى والضلال ، واقتراب أو ابتعاد عن درجة الكمال .
ولذا فإن أساطين الفلسفة لم يستطيعوا أن يتخلّصوا من التأثر بالبيئة ، فكانت تصوراتهم ومعتقداتهم فيها صدى كبير لما يحيط بهم . (2)
ولنأخذ على ذلك مثلاً ( أفلاطون ) فإنّا إذا درسنا نتاجه رأيناه يردد الأساطير التي سادت في عصره ، بل إنّه ينشئ الأسطورة ، ويضمنها أفكاره ومعتقداته ، بل إن كثيراً من معتقداته وآرائه هي أساطير في ذاتها .
اسمع ما يقوله العقاد في ( أفلاطون ) : " غلبت البيئة الوثنية أفلاطون على تفكيره بحكم العادة وتواتر المحسوسات ، فأدخل في عقيدته أرباباً ، وأنصاف أرباب لا محل لها في ديانات التوحيد " . (3)
ثم يعرض العقاد نظرية أفلاطون في الوجود تدليلاً على ما يقول : " فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان : طبقة العقل المطلق ، وطبقة المادة الأولية أو (الهيولي) ، والقدرة كلها من العقل المطلق ، والعجز كله من (الهيولي) ، وبين ذلك كائنات على درجات تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل ، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي ، وهذه الكائنات المتوسطة بعضها أرباب ، وبعضها أنصاف أرباب ، وبعضها نفوس بشرية " . (4)
والسبب الذي من أجله ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة كما يقول العقاد " إنه أراد أن يعلل بها ما في العالم من شرّ ونقص وألم ، فإنّ العقل المطلق كمال لا يحدّه الزمان والمكان ، ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة ، فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق لتوسطها بين الإله القادر (( والهيولي )) العاجز ، فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين " . (5)
ومن المعروف أيضاً أن أفلاطون يؤمن بعقيدة تناسخ الأرواح .
هذه هي الفلسفة في مصادرها .
أما العقيدة الإسلامية فهي وحي من الله ، له كلّ ما للإلهيات من ثبات الحقّ الذي لا تبديل لكلماته ، وصرامة الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم هو فوق ذلك (( منحة كريمة )) تصل إلى حامليها وسفرائها عفواً بلا كدح ولا نصب ، وتغمرهم بنورها في فترات خاطفة كلمح البصر أو هو أقرب . (6)
2- المنهج والسبيل (7) :
يختلف المنهج الفلسفي عن المنهج الإسلامي في خط سير كلّ منهما بداية ونهاية ، فالفلاسفة كثير منهم يبدؤون بدراسـة النفس الإنسانية ، ويجعلونها الأصل الذي يبنون عليه ، ويفرعون عنه ، فتكلموا في إدراكهم للعلم : وأنه تـارة يكون بالحسّ ، وتارة بالعقل ، وتارة بهما .
وجعلوا العلوم الحسيّة ، والبدهية ونحوها : هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها ، ثم زعموا أنهم إنما يدركون بذلك الأمور القريبة منهم ، من الأمور الطبعية والحسابية ، والأخلاق ، فجعلوا هذه الثلاثة هي الأصول التي يبنون عليها سائر العلوم ، ولهذا يمثلون ذلك في أصول علم الكلام ، بأن الواحد نصف الاثنين ، وأن الجسم لا يكون بمكانين ، وأن الضدّين – كالسواد والبياض – لا يجتمعان .
وكثير من هؤلاء لا يجعلون الأخلاق مثل : العدل ، والعفّة من الأصول ، بل من الفروع التي تفتقر إلى الدليل .
وكثير من المصنفين في الفلسفة يبتدئ بالمنطق ، ثم الطبيعي والرياضي ، ثم ينتقل إلى العلم الإلهي ، وتجد المصنفين في الكلام يبدؤون بمقدماته في الكلام : في النظر والعلم والدليل ، وهو من جنس المنطق ، ثم ينتقلون إلى حدوث العالم وإثبات مُحدثِه ، ومنهم من ينتقل من تقسيم المعلومات إلى الموجود والمعدوم وأقسامه ، كما يفعله الفيلسوف في أول العلم الإلهي .
وغالبية الفلاسفة يتوسعون في الأمور الطبعية ، ثم يصعدون إلى الأفلاك وأحوالها ، ثم المتألهون منهم يصعدون إلى واجب الوجود ، وإلى العقول والنفوس ، ومنهم من يثبت واجب الوجود ابتداء من جهة أن الوجود لا بدّ فيه من واجب .
وأما الغاية التي يرمي إليها المتكلمون الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر هي إثبات وحدانية الخالق ، وأنّه لا شريك له ، ويظنون أنّ هذا هو المراد بـ ( لا إله إلا الله ) .
هذا المنهج الفلسفي الكلامي يشغل الباحث والناظر فيه في قضايا ينقضي العمر ، ولا ينتهي من بعضها ، بل إنّ الذي يحصّله منها ينطوي على شبهـات تجعل اليقين غير موجود ، فيصاب الباحث بالحيرة والشك .
أما المنهج القرآني ، فإنّه يجعل فاتحة دعوته ودعوة الرسل جميعاً : الدعوة إلى عبادة الله وحده ( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ الأنبياء : 25 ] وكلّ رسول كان يطلب قومه في أول الأمر بأن يعبدوا الله وحده ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [ المؤمنون : 23 ] يطالبهم بعبادته بالقلب ، وعبادته باللسان ، وعبادته بالجوارح ، وعبادة الله متضمنة لمعرفته وذكره .
وأصل العلم عندهم هو العلم بالله سبحانه ، لا الحس ولا البدهيات فالله هو الأول الذي خلق الكائنات ، والآخر الذي إليه تصير الحادثات ، فهو الأصل الجامع ، والعلم به أصل كل علم وجامعه ، وذكره أصل كل ذكر وجامعه ، والعمل له أصل كل عمل وجامعه .
ومن العلم به تتشعب أنواع العلوم ، ومن عبادته وقصده تتشعب وجوه المقاصد الصالحة ، والقلب بعبادته والاستعانة به معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق ، واعتصم بالدليل الهادي ، والبرهان الوثيق ، فلا يزال إما في زيادة في العلم والإيمان ، وإما في السلامة عن الجهل والكفران ، فالعلم بالله أعظم سبيل لمعرفة الله ، ومعرفة الحياة والأشياء ، ومعرفة النفس الإنسانية .
يقول ابن أبي حاتم : " عرفنا كل شيء بالله " . وسئل ابن عباس : بم عرفت ربك ؟ قال : " من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس ، ظاعناً ( في الاعوجاج ، زائغاً (9) عن المنهج ، أعرفه بما عرّف به نفسه ، وأصفه بما وصف به نفسه " .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً حين أرسله إلى اليمن للدعوة إلى الله : أنّه سيقدم على قوم أهل كتاب وأوصاه أن يكون أول ما يدعوهم إليه عبادة الله ، فإذا عرفوا ذلك فيدعوهم إلى الفرائض ، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم أولاً إلى الشك ، أو النظر ، أو القصد إلى النظر كما هي طريقة بعض المتكلمين .
ولذا ابتدأ البخاري كتابه بالأصل الذي يقوم عليه العلم والإيمان ألا وهو الوحي ، فعقد كتاباً عنون له بـ ( بدء نزول الوحي ) ، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً ، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به ، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به ، فرتبه الترتيب الحقيقي الذي يدل على علمه وحكمته رحمه الله .
والله عندما يبعث الناس لا يسألهم عن العلوم الحسية والبدهية ، والمنطق والطبعي ، بل يسألهم عن استجابتهم للرسل أو عدمها ( كلما ألقى فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذيراً – قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيءٍ إن أنتم إلا في ضلال كبير – وقالوا لو كنَّا نسمع أو نعقل ما كنَّا في أصحاب السعير – فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ) [ الملك : 8-11 ] ، والحجة لا تقوم على الناس إلا ببعثه الرسل ( وما كنَّا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ الإسراء : 15 ] .
وكما أن الدعوة إلى الله هي نقطة البداية في المنهاج القرآني ، ومعرفة الله هي الأصل الذي تتفرع منه العلوم ، فإن نقطة النهاية أيضاً عبادة الله المتضمنة معرفته وتوحيده . أما مجرد الإقرار بوحدانية الخالق وإفراد الصانع التي هي نهاية مطلوب علماء الكلام ، فإنها – على الرغم من أهميتها – جزئية في المنهج القرآني لا يكفي مجرد الإقرار بها ، ولذا لم تنفع المشركين الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم مع إقرارهم بذلك ( ولئِن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله ) [ لقمان : 25 ] . ( قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم – سيقولون الله ) [ المؤمنون : 86-87 ] .
أما الفلاسفة الذين بحثوا في العقول والنفوس فهم يخبطون في هذا المجال خبطاً لا قرار له ، وحسبك دليلاً على ذلك أن التقدم العلمي الهائل في هذا العصر لم يكشف لنا حقيقة النفس الإنسانية (( ولقد بذل الجنس البشري مجهوداً جباراً لكي يعرف نفسه ، ولكن على الرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظات التي كدسها الفلاسفة والعلماء والشعراء وكبار الروحانيين في جميع الأزمان إلا أننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا ، إننا لا نفهم الإنسان ككل ، ... إننا نعرفه على أنّه مكون من أجزاء مختلفة ، وحتى هذه الأجزاء ابتدعتها وسائلنا ! فكل واحد منا مكوّن من موكب من الأشباح ، تسير في وسطها حقيقة مجهولة .
وواقع الأمر أنّ جهلنا مطبق ، فأغلب الأسئلة التي يلقيها على أنفسهم أولئك الذين يدرسون الجنس البشري تظل بلا جواب ، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنة ما زالت غير معروفة )) . (10)
إذا كانت هذه هي المعرفة التي بلغتها الأبحاث في القرن العشرين ، فكيف تجعل النفس الإنسانية هي الأصل الذي يتفرع عنه مختلف العلوم ، أمّا المعرفة بما وراء الطبيعة فإن الفلسفة ضلت فيها ضلالاً أبعد وأبين .
3- قوة التأثير (11) :
العقيدة تمتاز بسلطان قوي قاهر على نفوس معتنقيها ، وليس للفلسفة أن تطمح إلى نيل هذه الميزة ، وإلا لجاوزت قدرها ، وتناقضت في نفسها ، والسبب في ذلك أنّ الفلسفة تبحث عن المعرفة والحقيقة بقدر الطاقة البشرية ، ثم تعرض ما تظفر به في جوانب تلك الحقيقة ، والفيلسوف هو أول من يعرف قصور العقل البشري ، وقصور كل ما هو إنساني عن درجة الكمال ، ولذلك كان التسامح والتواضع العلمي من أظهر خصائصه ، فسقراط وهو مَنْ هو بين الفلاسفة يقول : " الشيء الذي لا أزال أعلمه جيداً هو أنني لست أعلم شيئاً " .
أما صاحب العقيدة فيرى أنّ عقيدته التي يحملها مستمدة من العالم بسر الوجود الذي أحاط بكل شيء علماً ، فهي تمثل الحقيقة بلا غبش .
فهي بطبيعتها ملزمة ، تتقاضى صاحبهـا الخضوع والتسليم ، ولا تقبل منه في حكمها جدالاً ولا مناقضة ، بل لا تبيح له في نفسها بحثاً ولا ترديداً ، فإن فعل ذلك في مسألة ما ، كان في هذه المسألة بعينها متفلسفاً غير متدين ، حتى يستقرّ فيها على رأي معين يدين به ، فهنالك لا يقبل فيه مساومة ، ولا يستطيع منه تحللاً ، إذ يصبح عقيدة يخلص لها إخلاصاً خارقاً للعادة ، حتى لا يبالي بأن يضحّي في سبيلها بحياته ، ولا نكاد نجد هذا السلطان على النفس لفكرة أخرى : علمية أو سياسية أو غيرها .
ويبين الشيخ محمد عبد الله دراز السر في هذه الظاهرة فيقول : " السر في هذه الظاهرة – وهي قوة سلطان العقيدة وتميزها بذلك عن الفلسفة – يتمثل في الفارق بين حقيقة المعرفة وحقيقة الإيمان ، وفي الفرق بين القوة النفسية التي تقوم بوظيفة المعرفة ، والقوة النفسية التي تقوم بوظيفة الإيمان . فالواحد من الناس قد يدرك معنى الجوع والعطش وهو غير محس بآلامهما ، وقد يفهم معنى الحبّ والشوق ، وليس من أهلهما ، وقد يرى الأثر الفني البارع فيفهم أسراره ، ويقف على دقائق صنعه ، ولكنه لا يتذوقه ، ولا يتملك قلبه الإعجاب به ....
هذه ضروب من المعرفة والعلم ، يهديها إلينا الحس ، أو الفكر ، أو البديهة ، فتلاحظها النفس ، وكأنها غريبة عنها ، أو تمرّ بها عابرة ، فتمسها مساً جانبياً لا يبلغ إلى قرارتها ، أو تختزنها وتدخرها ، ولكنها لا تهضمها ولا تتمثلها ، وكل حالة نفسية تقف بالأفكار والمبادئ عند هذه المراحل فليست من الإيمان في قليل ولا كثير .
الإيمان معرفـة تتجاوب أصداؤها في أعماق الضمير ، وتختلط مادتها بشغاف القلوب ، فلا يجد الصدر منها شيئاً من الضيق والحرج ، بل تحس النفس ببرد اليقين ، الإيمان تذوق ووجدان يحمل الفكرة من سماء العقل إلى قرارة القلب ، فيجعلها للنفس رياً وغذاء يدخل في كيانها ، ويصبح عنصراً من عناصر حياتها ، الإيمان يحول الفكرة قوة دافعة فعّالة خلاقة ، لا يقف في سبيلها شيء في الكون إلا استهانت به .
هذا هو فصل ما بين الدين والفلسفة ، غاية الفلسفة المعرفة ، وغاية الدّين الإيمان ، مطلب الفلسفة فكرة جافة ترتسم في صورة جامدة ، ومطلب الدين روح وثّابة وقوة محركة .
ويلاحظ دراز أن الفلسفة تعمل في جانب واحد من جوانب النفس ، بينما الدين يستحوذ على النفس بجملتها ، وأن الفلسفة ملاحظة وتحليل وتركيب ، فهي صناعة تقطع أوصال الحقيقة وتزهق روحها ، ثم تؤلف بينها لتعرضها من جديد في نسق صناعي على مرآة الفطنة ، فتنطبع سطح النفس قشرة يابسة ، أما الدّين فهو حداء ونشيد يحمل الحقيقة جملة ، فيعبر بها القشرة السطحية ، لينفذ منها إلى أعماق القلوب وأغوارها ، فتعطيها النفس كليتها وتملكها زمامها .
وهنا يستنبط دراز فرقاً دقيقاً بين الفلسفة والدين : فيلاحظ أنّ غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العملي ، وغاية الدّين عملية ، حتى في جانبه العلمي ، فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما ، وأين هما ؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحقّ الذي تعرفه ، والخير الذي تحدّده ، أما الدّين فيعرفنا الحقّ لا لنعرفه فحسب ، بل لنؤمن به ونحبه ونمجّده ، ويعرفنا الواجب لنؤدّيه ونوفيه ، ونكمل نفوسنا بتحقيقه .
وكي يزيد الأمر إيضاحاً قارن بين الآثار العملية الدينية والفلسفية ، وبَيّنَ دراز أنّ الدّين يلفت النظر كي يتعرف الإنسان إلى خالقه ، ويتوجه إليه ، ويحبّه ويُقدّسه ، على أنّ غاية الفلسفة مجرد المعرفة التي تربط بين الأسباب والمسببات .
وبين أنّ العقيدة تتدفق في الميدان الاجتماعي ، فهي تهز صاحبها لتحقيق أهدافها بالنشر والدعوة ، بينما الفلسفة لا يعنيها التوسع والانتشار ، بل قد يضنّ بها أصحابها على غيرهم ، فيحتكرونها ، ويستأثرون بها .
4- الأسلوب (12) :
الأسلوب الذي صيغت به العقيدة الإسلامية أسلوب خاص يمتاز بالحيوية والإيقاع ، واللمسة المباشرة والإيحاء ، الإيحاء بالحقائق الكبيرة التي لا تتمثل كلها في العبارة ، ولكن توحي بها العبارة ، كما يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها ، ولا تخاطب الفكر وحده في الكائن البشري .
أما الفلسفة فلها أسلوب آخر ، إذ هي تحاول أن تحصر الحقيقة في العبارة ، ولما كان نوع الحقيقة التي يتصدى لها يستحيل أن تنحصر في منطوق العبارة – فضلاً على أنّ جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها أكبر من المجال الذي يعمل فيه الفكر البشري – فإنّ الفلسفة تنتهي حتماً إلى التعقيد والتخليط والجفاف ، ومن هنا لا يجوز أن تُعرض العقيدة الإسلامية بأسلوب الفلسفة ، لأنه يقتلها ويطفئ إشعاعها وإيحاءها ، ويقصرها على جانب واحد من جوانب الكينونة الإنسانية .
ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها ، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها ، ومسلك القرآن في بيان العقيدة الإسلامية مُتّسم بالبساطة والوضوح يجعل إدراكها سهلاً ميسراً لكافة مستويات النّاس على اختلاف مداركهم وفِطرهم ، يأخذ كل حسب طاقته من التفكير والاقتناع ، بخلاف تلك الأساليب الفلسفية والكلاميـة المعقدة الممتلئة بالمصطلحات ، إذ لا يدرك محتوياتها إلا القليل من الناس .
5- طريقة الاستدلال :
وفي هذا الجانب يتميّز القرآن في ما جـاء به من الأدلة عن الطريقة الفلسفية الكلامية ، ويمكن أن نوضح هذه الفروق في النقاط التالية :
أ- استدل القرآن بالآيات المشهودة ( الكونية ) على وحدانية الخالق ، وكذلك الفلاسفة والمتكلمون ، ولكنّ طريقة القرآن مخالفة للطريقة الفلسفية الكلامية ، فالقرآن يستدل بالآيات نفسها التي يستلزم العلم بها العلم بصانعها ، كاستلزام العلم بشعاع الشمس العلم بالشمس من غير احتجاج إلى إقامة الأقيسة التي أقامها المتكلمون للاستدلال على حدوث العالم .
فالعلم بكون هذه العوالم مخلوقة مربوبة أمر فطري لا يحتاج إلى إقامة الدليـل والبرهان ، فالإنسان يعلم بفطرته أنّ هذا الكون الذي يراه فقير إلى الخالق ، مقهور مربوب ، وهذا لا يحتاج إلى تلك الأقيسة التي أقاموها ، كي نعلم حدوث العالم ، وأن له مُحدثاً .
قال تعالى : ( أو لم ير الذين كفروا أن السَّماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون – وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون – وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آيَاتِهَا معرضون – وهو الذي خلق اللَّيْلَ والنَّهار والشمس والقمر كل في فلكٍ يسبحون ) [ الأنبياء : 30-33 ] .
ب- الأدلة العقلية (13) التي جاء بها القرآن لائقة بجلال الله وكماله ، فلم يستعمل القرآن قياس الشمول وقياس التمثيل الذي تستوي أفراده في حقّ الله تعالى ، لأنه يلزم منهما تسوية الخالق بالمخلوق .
وإنما يستعمل في حقه تعالى قياس الأولى الذي مضمونه أنّ كلّ كمال وجودي غير مستلزم للعدم ولا للنقص بوجه من الوجوه اتصف المخلوق به ، فالخالق أوْلى أنْ يتصف به ، لأنّه هو الذي وهب المخلوق ذلك الكمال ، ولأنّه لو لم يتصف بذلك الكمال مع إمكان أن يتصف به ، لكان في الممكنات من هو أكمل منه وهو محال ، قال تعالى : ( ولله المثل الأعلى ) [ النحل : 60 ] .
وكلّ نقص ينزّه عنه المخلوق ، فالخالق أولى بالتنزه عنه .
ج- ونلاحظ أيضاً أن الأدلة العقلية القرآنية تدلّ على الحقّ بأبلغ عبارة وأوجزها ، أمّا الأدلة العقلية الكلامية والفلسفية فكثير منها لا ينهض للاستدلال به ، وضعف الدليل الذي يستدّل به على الحقّ يؤدي إلى كثرة الشك والاضطراب والحيرة ، بل قد يؤدي إلى ردّ الحق ، إذ يسهل على الخصم بيان عوار الدليل ، فإذا ردّه ردّ الحقّ مع أنّ الحق قويّ في ذاته ، والضعف إنّما هو في الدليل الموصل إليه ، لأجل ذلك نجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول ، وجزماً بالقول في موضع وبنقيضه في موضع آخر ، بل يكفّرون بقولٍ ما ، وهم ممن قال به في مكان آخر ، بخلاف أدلة الكتاب والسنة فإنّ أصحابها مستقرون عليها ، آخذون بها ، لا يتلجلجون ، ولا يضطربون . (14)
د- ونلاحظ أنّ بعض أدلة المتكلمين يلزم منها لوازم باطلة ، إذ يلزم من بعضها ردّ الحق الثابت في الكتاب والسنة .
فقد ردّوا النصـوص التي تدّل على أنّ الله في السماء بدعوى أنّ الله لا يكون في جهة ، لأنّ كونه في جهة يُعدّ تحيّزاً ، مع أنّ النصوص صريحة في كونه تعالى في السماء ، وخطؤهم أنّهم ظنوا أنّ معنى كونه في السماء : أنّ السماء تحويه ، وأخطؤوا أيضاً عندما طبقوا المقاييس البشرية على الذات الإلهية .
6-الجنى والعطاء :
ومن الفُروق أيضاً أن القرآن يعطي إيماناً مفصّلاً كما قال جندب بن عبد الله : " تعلمنا الإيمان ، ثم تعلمنا القرآن ، فازددنا إيماناً " .
فالقرآن يصف لنا ربنا ، وأن له وجهاً ويداً وسمعاً وبصراً ، ويعدّد لنا أسمـاءه وصفاته : فهو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ...... ، ويعرفنا بأفعاله ومخلوقاته ، ويصف لنا القيامة وأهوالها والجنة والنار كأننا نراهما .
أما طريقة المتكلمين فإنّ غاية ما عندهم إيمان مجمل ، لا يعطي علماً وافياً ، ولا تصوراً واضحاً .
لا لقاء :
لا لقاء بين الدّين والفلسفة فهما منهجان مختلفان : في البداية والنهاية ، والطريقة والأسلوب ، وفي التأثير والعطاء ، وقبل ذلك كلّه في المنابع والمصادر .
والإسلام لا يحتاج إلى من يكمله ، فقد أكمله العليم الخبير ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) [ المائدة : 3 ] ، ولا نحتاج إلى أن نوفّق بينـه وبين الفلسفة ، ولا بينه وبين اليهودية والنصرانية ، ولا بينه وبين الشيوعية والاشتراكية ، فالإسلام حق لا باطل فيه ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) [ فصلت : 42 ] وغيره إمّا باطل ، وإما حق مخلوط بباطل ، والإسلام ما جاء لتحكمه أفكار البشر ، وإنما جاء ليهيمن على الحياة والأحياء ، ويقوّم المعوجّ من العقائد والأفكار .
يجب علينا أن نبقي عقيدتنا وشريعتنا متميزة صافية نقية كما يريد ربنا ( قد تبين الرشد من الغيّ ) [ البقرة : 256 ] وإن خلطها بغيرها يؤدي إلى اللبس الذي عابه الله على أهل الكتاب ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ) [ آل عمران : 71 ]