العقيدة لغة واصطلاحاً
تتردد كلمة العقيدة على ألسنة الناس وفي محاوراتـهم ومحادثاتهم كثيراً ، فنراهم يقولون : (( أنا أعتقد كذا ، وفلان عقيدته حسنة ، والعقيدة الإسلامية السبب الأقوى الذي أدى إلى الانتصارات الإسلامية العظيمة في كلّ زمان ومكان ، والحرب بيننا وبين اليهود حرب عقائدية في حقيقتها ... )) .
فماذا يريد الناس من كلمة (عقيدة) ؟ وما معنى هذه الكلمة في اللغة ؟ وما مفهومها في الشرع ؟ .
العقائد هي الأمور التي تصدق بها النفوس ، وتطمئن إليها القلوب ، وتكون يقيناً عند أصحابها ، لا يمازجها ريب ولا يخالطها شك . (1)
و ((عَقْد الحبل)) شدّ بعضه ببعض نقيض حله ، ومادة ((عقد)) في اللغة مدارها على اللزوم والتأكد والاستيثاق ، ففي القرآن : ( لا يؤاخذكم الله باللَّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان ) [ المائدة : 89] ، وتعقيد الأيمان إنما يكون بقصد القلب وعزمه ، بخلاف لغو اليمين التي تجري على اللسان بدون قصد .
و ((العقود)) : أوثق العهود ، ومنه قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمَنُواْ أوفوا بالعقود) [ المائدة : 1] ، وتقول العرب : " اعتقد الشيء : صلب واشتدّ " . (2)
والعقيدة في الإسلام تقابل الشريعة ، إذ الإسلام عقيدة وشريعة ، والشريعة تعني التكاليف العملية التي جاء بها الإسلام في العبادات والمعاملات .
المبحث الثاني
العقائد علميّة قلبيّة
والعقيدة ليست أموراً عملية ، بل أمور علمية يجب على المسلم أن يعتقدها في قلبه ، لأنّ الله أخبره بها بطريق كتابه ، أو بطريق وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأصول العقائد التي أمرنا الله باعتقادها هي المذكورة في قوله تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [البقرة : 285] ، وحدّدها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور بقوله : ( الإيمانُ : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتابه ، ولقائه ، ورسله ، وتؤمن بالبعث الآخر ) (3) . إذن العقيدة في الإسلام : هي المسائل العلمية التي صح بها الخبر عن الله ورسوله ، والتي يجب أن ينعقد عليها قلب المسلم تصديقاً لله ورسوله .
المبحث الثالث
العقيدة يقين لا تقبل الشك
وحتى تصبح هذه الأصول عقيدة لا بد أن نصدق بها تصديقاً جازماً لا ريب فيه ، فإن كان فيها ريب أو شك كانت ظناً لا عقيدة ، يقول صاحب المعجم الوسيط : (( العقيدة : الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده )) (4) ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( إنَّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمَّ لم يرتابوا ) [الحجرات : 15] ، وقال : ( آلم - ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [ البقرة : 1-2 ] ، وقال : ( ربَّنا إنَّك جامع النَّاس ليومٍ لا ريب فيه ) [ آل عمران : 9] ، وذم المشركين المرتابين : ( وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردَّدون ) [ التوبة : 45 ] .
المبحث الرابع
المعتقدات غيب غير منظور
ويلاحظ أن المسائل التي يجب اعتقادها أمور غيبية ، ليست مشاهدة منظورة ، وهي التي عناها اله بقوله عندما مدح المؤمنين ( الذين يؤمنون بالغيب ) [البقرة : 3] .
فالله غيب ، وكذلك الملائكة واليوم الآخر ، أما الكتب والرسل فقد يتبادر أنّها تشاهد وتنظر ، ولكنّ المراد هو الإيمان بنسبتها إلى الله ، أي كون الرسل مبعوثين من عند الله ، وأن الكتب منزلة من عند الله ، وهذا أمر غيبي .
المبحث الخامس
العقيدة الصحيحة والعقيدة الفاسدة
العقيدة ليست مختصة بالإسلام ، بل كل ديانة أو مذهب لا بدّ لأصحابه من عقيدة يقيمون عليها نظام حياتهم ، وهذا ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الجماعات ، والعقائد منذ بدء الخليقة وإلى اليوم ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قسمان :
الأول : يمثل العقيدة الصحيحة ، وهي تلك العقائد التي جاءت بها الرسل الكرام ، وهي عقيدة واحدة ، لأنها منزلة من العليم الخبير ، ولا يتصور أن تختلف من رسول إلى رسول ومن زمان إلى زمان .
والقسم الثاني : يشمل العقائد الفاسدة على كثرتها وتعددها ، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر ، ومن وضع عقلائهم ومفكريهم ، ومهما بلغ البشر من عظم الشأن فإن علمهم يبقى محدوداً مقيداً بقيود متأثراً بما حولهم من عادات وتقاليد وأفكار .
وقد يأتي فساد العقيدة من تحريفها ، وتغييرها وتبديلها ، كما هو الحال بالنسبة للعقيدة اليهودية والنصرانية في الوقت الحاضر ، فإنهما حُرّفتا منذ عهد بعيد ، ففسادهما كان من هذا التحريف ، وإن كانت واحدة منهما عقيدة سليمة في الأصل .
أين العقيدة الصحيحة اليوم ؟
العقيدة الصحيحة اليوم لا توجد إلا في الإسلام ، لأنّه الدين المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه ( إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر :9] والعقائد في غير الإسلام ، وإن كان في بعضها نتف من الحق ، فإنها لا تمثل الحق ولا تجليه .
فمن أراد أن يعرف العقيدة السليمة فإنه لن يجدها في اليهودية ، ولا في النصرانية ، ولا في كلام الفلاسفة ... ، وإنما يجدها في الإسلام في أصليه : الكتاب والسنة ، نديّة طريّة صافية مشرقة ، تقنع العقل بالحجة والبرهان ، وتملأ القلب إيماناً ويقيناً ونوراً وحياة : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نَّهدي به من نشاء من عبادنا ) [الشورى : 52] .
المبحث السادس
أهمية العقيدة الإسلامية وضرورتها
العقيدة الإسلامية ضرورية للإنسان ضرورة الماء والهواء ، إذ هو بدون هذه العقيدة ضائع تائه يفقد ذاته ووجوده . العقيدة الإسلامية وحدها هي التي تجيب عن التساؤلات التي شغلت ، ولا تزال تشغل الفكر الإنساني ، بل تحيّره : من أين جئت ؟ ومن أين جاء هذا الكون ؟ من الموجد ؟ وما صفاته ؟ وما أسماؤه ؟ ولماذا أوجدنا وأوجد الكون ؟ وما دورنا في هذا الكون ؟ وما علاقتنا بالخالق الذي خلقنا ؟ وهل هناك عوالم غير منظورة وراء هذا العالم المشهود ؟ وهل هناك مخلوقات عاقلة مفكرة غير هذا الإنسان ؟ وهل بعد هذه الحياة من حياة أخرى نصير إليها ؟ وكيف تكون تلك الحياة إن كان الجواب بالإيجاب ؟
لا توجد عقيدة سوى العقيدة الإسلامية اليوم تجيب على هذه الأسئلة إجابة صادقة مقنعة ، وكل من لم يعرف هذه العقيدة ، أو لم يعتنقها ، فإن حاله لن يختلف عن حال ذلك الشاعر البائس (5) الذي لا يدري شيئا :
جئت ، لا أعلم من أين ، ولكني أتيت
ولقد أبصـرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائـراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟
لست أدري
أجديد أم قديم أنا في هـذا الوجـود ؟
هل أنـا حرّ طليق أم أسير في قيـود ؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود ؟
أتمنـى أننــي أدري ولــكنّـي
لست أدري
وطريقي ما طريقي ؟ أطويل أم قصير ؟
هل أنا أصعــد أم أهبط فيه وأغور ؟
أأنـا السائـر في الدرب تسيــر ؟
أم كلانـا واقف والدهر يجــري ؟!
لست أدري
ليت شعري وأنا في عالم الغيب الأمين
أتراني كنت أدري أننــي فيـه دفين
وبأني سوف أبــدو وبأني سأكون
أم تراني كنت لا أدرك شيئاً ؟
لست أدري
أتراني قبلما أصبحت إنساناً سويّاً
كنت محواً أو محالاً أم تراني كنت شيئاً
ألهذا اللغز حلّ ؟ أم سيبقى أبدياً
لست أدري ... ولماذا لست أدري ؟
لست أدري
أي حيرة هذه ! وأي قلق تجلبه هذه المجاهيل للنفس الإنسانية ؟! ألا يستحق أبناء هذا القرن الذين فقدوا المعرفة بالحقائق الكبرى التي لا تستقيم حياتهم إلا بها هذه الهموم التي تملاً النفس وتسبب الأوجاع والعقد النفسية ؟!
وأين هؤلاء من المسلم الذي يدري ، ويعرف معرفة مستيقنة كل هذه الحقائق ، فإذا به يجد برد اليقين ، وهدوء البال ، وإذا به يسير في طريق مستقيم إلى غاية مرسومة يعرف معالمها ، ويدري غايتها .
واستمع إلى الشاعر البائس يتحدث عن الموت والمصير :
إن يكُ الموت قصاصاً ! أي ذنب للطهارة ؟
وإن كان ثواباً ، أي فضل للدعارة ؟
وإذا كان وما فيه جزاء أو خسارة
فلم الأسماء إثم وصلاح ؟
لست أدري
إن يك الموت رقاداً بعده صحو طويل
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل ؟
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل ؟
ومتى ينكشف الستر فيدري ؟
لست أدري
إن يك الموت هجوعاً يملأ النفس سلاماً
وانعتاقاً لا اعتقالا وابتداء لا ختاماً
فلماذا لا أعشق النوم ولا أهوى الحماما ؟
ولماذا تجزع الأرواح منه ؟
لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث نشوره ؟
فحياة ، فخلود ، أم فناء فدثور ؟
أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور ؟
أصحيح أن بعض الناس يدري ؟
لست أدري
إن أكن أبعثُ بعد الموت جُثْماناً وعقلاً
أترى أبعث بعضاً أم ترى أبعث كُلاً
أترى أبعث طفلاً أم ترى أبعث كهلاً
ثم هل أعرف بعد البعث ذاتي ؟
لست أدري
إنه لا يدري إلى أين المصير ، ومصير الإنسان يهمه ويعنيه ، ويريد أن يطمئن على ذاك المصير ، ونحن نرى لوعة الشاعر وأساه ، لأنّه لا يدري إلى أين يصير ؟ وماذا سيصير؟ إنه الضلال عن الحقيقة ، إنّه شقاء القلب المثقل المكدود ، الذي أتعبه المسير ، وكم في الحياة من أمثال هذا الشاعر البائس الضال ، بعضهم يستطيع أن يفصح عن شقوته ، وحيرته ، وبعضهم يحس ويعاني ، وتبقى أفكاره حبيسة نفسه الشقية .
((لست أدري)) تلك هي الإجابة عن التساؤلات الخالدة ، وليست هي قولة شاعر فحسب ، ((فسقراط)) الفيلسوف الذي يُعدّ من عمالقة الفلاسفة ، يقول بصريح العبارة : " الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري " (6) ، بل إنّ ((اللاأدرية)) مذهب فلسفي قديم .
بالإسلام وحده يصبح الإنسان يدري من أين جاء ، وإلى أين المصير ، يدري لماذا هو موجود ، وما دوره في هذا الوجود ، يدري ذلك حقاً وصدقاً ، وفرق بين من يدري ومن لا يدري ( أفمن يمشي مُكباً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراطٍ مستقيمٍ ) [ الملك : 22 ]
تتردد كلمة العقيدة على ألسنة الناس وفي محاوراتـهم ومحادثاتهم كثيراً ، فنراهم يقولون : (( أنا أعتقد كذا ، وفلان عقيدته حسنة ، والعقيدة الإسلامية السبب الأقوى الذي أدى إلى الانتصارات الإسلامية العظيمة في كلّ زمان ومكان ، والحرب بيننا وبين اليهود حرب عقائدية في حقيقتها ... )) .
فماذا يريد الناس من كلمة (عقيدة) ؟ وما معنى هذه الكلمة في اللغة ؟ وما مفهومها في الشرع ؟ .
العقائد هي الأمور التي تصدق بها النفوس ، وتطمئن إليها القلوب ، وتكون يقيناً عند أصحابها ، لا يمازجها ريب ولا يخالطها شك . (1)
و ((عَقْد الحبل)) شدّ بعضه ببعض نقيض حله ، ومادة ((عقد)) في اللغة مدارها على اللزوم والتأكد والاستيثاق ، ففي القرآن : ( لا يؤاخذكم الله باللَّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان ) [ المائدة : 89] ، وتعقيد الأيمان إنما يكون بقصد القلب وعزمه ، بخلاف لغو اليمين التي تجري على اللسان بدون قصد .
و ((العقود)) : أوثق العهود ، ومنه قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمَنُواْ أوفوا بالعقود) [ المائدة : 1] ، وتقول العرب : " اعتقد الشيء : صلب واشتدّ " . (2)
والعقيدة في الإسلام تقابل الشريعة ، إذ الإسلام عقيدة وشريعة ، والشريعة تعني التكاليف العملية التي جاء بها الإسلام في العبادات والمعاملات .
المبحث الثاني
العقائد علميّة قلبيّة
والعقيدة ليست أموراً عملية ، بل أمور علمية يجب على المسلم أن يعتقدها في قلبه ، لأنّ الله أخبره بها بطريق كتابه ، أو بطريق وحيه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأصول العقائد التي أمرنا الله باعتقادها هي المذكورة في قوله تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) [البقرة : 285] ، وحدّدها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور بقوله : ( الإيمانُ : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتابه ، ولقائه ، ورسله ، وتؤمن بالبعث الآخر ) (3) . إذن العقيدة في الإسلام : هي المسائل العلمية التي صح بها الخبر عن الله ورسوله ، والتي يجب أن ينعقد عليها قلب المسلم تصديقاً لله ورسوله .
المبحث الثالث
العقيدة يقين لا تقبل الشك
وحتى تصبح هذه الأصول عقيدة لا بد أن نصدق بها تصديقاً جازماً لا ريب فيه ، فإن كان فيها ريب أو شك كانت ظناً لا عقيدة ، يقول صاحب المعجم الوسيط : (( العقيدة : الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده )) (4) ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( إنَّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمَّ لم يرتابوا ) [الحجرات : 15] ، وقال : ( آلم - ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [ البقرة : 1-2 ] ، وقال : ( ربَّنا إنَّك جامع النَّاس ليومٍ لا ريب فيه ) [ آل عمران : 9] ، وذم المشركين المرتابين : ( وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردَّدون ) [ التوبة : 45 ] .
المبحث الرابع
المعتقدات غيب غير منظور
ويلاحظ أن المسائل التي يجب اعتقادها أمور غيبية ، ليست مشاهدة منظورة ، وهي التي عناها اله بقوله عندما مدح المؤمنين ( الذين يؤمنون بالغيب ) [البقرة : 3] .
فالله غيب ، وكذلك الملائكة واليوم الآخر ، أما الكتب والرسل فقد يتبادر أنّها تشاهد وتنظر ، ولكنّ المراد هو الإيمان بنسبتها إلى الله ، أي كون الرسل مبعوثين من عند الله ، وأن الكتب منزلة من عند الله ، وهذا أمر غيبي .
المبحث الخامس
العقيدة الصحيحة والعقيدة الفاسدة
العقيدة ليست مختصة بالإسلام ، بل كل ديانة أو مذهب لا بدّ لأصحابه من عقيدة يقيمون عليها نظام حياتهم ، وهذا ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الجماعات ، والعقائد منذ بدء الخليقة وإلى اليوم ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قسمان :
الأول : يمثل العقيدة الصحيحة ، وهي تلك العقائد التي جاءت بها الرسل الكرام ، وهي عقيدة واحدة ، لأنها منزلة من العليم الخبير ، ولا يتصور أن تختلف من رسول إلى رسول ومن زمان إلى زمان .
والقسم الثاني : يشمل العقائد الفاسدة على كثرتها وتعددها ، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر ، ومن وضع عقلائهم ومفكريهم ، ومهما بلغ البشر من عظم الشأن فإن علمهم يبقى محدوداً مقيداً بقيود متأثراً بما حولهم من عادات وتقاليد وأفكار .
وقد يأتي فساد العقيدة من تحريفها ، وتغييرها وتبديلها ، كما هو الحال بالنسبة للعقيدة اليهودية والنصرانية في الوقت الحاضر ، فإنهما حُرّفتا منذ عهد بعيد ، ففسادهما كان من هذا التحريف ، وإن كانت واحدة منهما عقيدة سليمة في الأصل .
أين العقيدة الصحيحة اليوم ؟
العقيدة الصحيحة اليوم لا توجد إلا في الإسلام ، لأنّه الدين المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه ( إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر :9] والعقائد في غير الإسلام ، وإن كان في بعضها نتف من الحق ، فإنها لا تمثل الحق ولا تجليه .
فمن أراد أن يعرف العقيدة السليمة فإنه لن يجدها في اليهودية ، ولا في النصرانية ، ولا في كلام الفلاسفة ... ، وإنما يجدها في الإسلام في أصليه : الكتاب والسنة ، نديّة طريّة صافية مشرقة ، تقنع العقل بالحجة والبرهان ، وتملأ القلب إيماناً ويقيناً ونوراً وحياة : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نَّهدي به من نشاء من عبادنا ) [الشورى : 52] .
المبحث السادس
أهمية العقيدة الإسلامية وضرورتها
العقيدة الإسلامية ضرورية للإنسان ضرورة الماء والهواء ، إذ هو بدون هذه العقيدة ضائع تائه يفقد ذاته ووجوده . العقيدة الإسلامية وحدها هي التي تجيب عن التساؤلات التي شغلت ، ولا تزال تشغل الفكر الإنساني ، بل تحيّره : من أين جئت ؟ ومن أين جاء هذا الكون ؟ من الموجد ؟ وما صفاته ؟ وما أسماؤه ؟ ولماذا أوجدنا وأوجد الكون ؟ وما دورنا في هذا الكون ؟ وما علاقتنا بالخالق الذي خلقنا ؟ وهل هناك عوالم غير منظورة وراء هذا العالم المشهود ؟ وهل هناك مخلوقات عاقلة مفكرة غير هذا الإنسان ؟ وهل بعد هذه الحياة من حياة أخرى نصير إليها ؟ وكيف تكون تلك الحياة إن كان الجواب بالإيجاب ؟
لا توجد عقيدة سوى العقيدة الإسلامية اليوم تجيب على هذه الأسئلة إجابة صادقة مقنعة ، وكل من لم يعرف هذه العقيدة ، أو لم يعتنقها ، فإن حاله لن يختلف عن حال ذلك الشاعر البائس (5) الذي لا يدري شيئا :
جئت ، لا أعلم من أين ، ولكني أتيت
ولقد أبصـرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائـراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت ؟ كيف أبصرت طريقي ؟
لست أدري
أجديد أم قديم أنا في هـذا الوجـود ؟
هل أنـا حرّ طليق أم أسير في قيـود ؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود ؟
أتمنـى أننــي أدري ولــكنّـي
لست أدري
وطريقي ما طريقي ؟ أطويل أم قصير ؟
هل أنا أصعــد أم أهبط فيه وأغور ؟
أأنـا السائـر في الدرب تسيــر ؟
أم كلانـا واقف والدهر يجــري ؟!
لست أدري
ليت شعري وأنا في عالم الغيب الأمين
أتراني كنت أدري أننــي فيـه دفين
وبأني سوف أبــدو وبأني سأكون
أم تراني كنت لا أدرك شيئاً ؟
لست أدري
أتراني قبلما أصبحت إنساناً سويّاً
كنت محواً أو محالاً أم تراني كنت شيئاً
ألهذا اللغز حلّ ؟ أم سيبقى أبدياً
لست أدري ... ولماذا لست أدري ؟
لست أدري
أي حيرة هذه ! وأي قلق تجلبه هذه المجاهيل للنفس الإنسانية ؟! ألا يستحق أبناء هذا القرن الذين فقدوا المعرفة بالحقائق الكبرى التي لا تستقيم حياتهم إلا بها هذه الهموم التي تملاً النفس وتسبب الأوجاع والعقد النفسية ؟!
وأين هؤلاء من المسلم الذي يدري ، ويعرف معرفة مستيقنة كل هذه الحقائق ، فإذا به يجد برد اليقين ، وهدوء البال ، وإذا به يسير في طريق مستقيم إلى غاية مرسومة يعرف معالمها ، ويدري غايتها .
واستمع إلى الشاعر البائس يتحدث عن الموت والمصير :
إن يكُ الموت قصاصاً ! أي ذنب للطهارة ؟
وإن كان ثواباً ، أي فضل للدعارة ؟
وإذا كان وما فيه جزاء أو خسارة
فلم الأسماء إثم وصلاح ؟
لست أدري
إن يك الموت رقاداً بعده صحو طويل
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل ؟
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل ؟
ومتى ينكشف الستر فيدري ؟
لست أدري
إن يك الموت هجوعاً يملأ النفس سلاماً
وانعتاقاً لا اعتقالا وابتداء لا ختاماً
فلماذا لا أعشق النوم ولا أهوى الحماما ؟
ولماذا تجزع الأرواح منه ؟
لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث نشوره ؟
فحياة ، فخلود ، أم فناء فدثور ؟
أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور ؟
أصحيح أن بعض الناس يدري ؟
لست أدري
إن أكن أبعثُ بعد الموت جُثْماناً وعقلاً
أترى أبعث بعضاً أم ترى أبعث كُلاً
أترى أبعث طفلاً أم ترى أبعث كهلاً
ثم هل أعرف بعد البعث ذاتي ؟
لست أدري
إنه لا يدري إلى أين المصير ، ومصير الإنسان يهمه ويعنيه ، ويريد أن يطمئن على ذاك المصير ، ونحن نرى لوعة الشاعر وأساه ، لأنّه لا يدري إلى أين يصير ؟ وماذا سيصير؟ إنه الضلال عن الحقيقة ، إنّه شقاء القلب المثقل المكدود ، الذي أتعبه المسير ، وكم في الحياة من أمثال هذا الشاعر البائس الضال ، بعضهم يستطيع أن يفصح عن شقوته ، وحيرته ، وبعضهم يحس ويعاني ، وتبقى أفكاره حبيسة نفسه الشقية .
((لست أدري)) تلك هي الإجابة عن التساؤلات الخالدة ، وليست هي قولة شاعر فحسب ، ((فسقراط)) الفيلسوف الذي يُعدّ من عمالقة الفلاسفة ، يقول بصريح العبارة : " الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري " (6) ، بل إنّ ((اللاأدرية)) مذهب فلسفي قديم .
بالإسلام وحده يصبح الإنسان يدري من أين جاء ، وإلى أين المصير ، يدري لماذا هو موجود ، وما دوره في هذا الوجود ، يدري ذلك حقاً وصدقاً ، وفرق بين من يدري ومن لا يدري ( أفمن يمشي مُكباً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراطٍ مستقيمٍ ) [ الملك : 22 ]