سئل فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى في آخر محاضرة (عوائق الطلب) عند الدقيقة (00:58:40):
إذا أخطأ عالم من علماء أهل السنة أو طالب علم في بعض المسائل العلمية، ما الضوابط الشرعية التي يعمل بها طالب العلم في التعامل معهم؟
فأجاب حفظه الله:
(أولا المسائل الشرعية نوعان:
مسائل ظاهرة بينة في أن الدليل دلَّ عليها بظهور.
والنوع الثاني مسائل اجتهادية متعلقة بالنوازل وبما يكون.
أما الكلام في الأول، وهو ما يختلف الناس فيه، في المسائل التي فيها دليل ظاهر بين، فالخطأ ظاهر والصواب ظاهر، لأجل ظهور الدليل في ذلك.
وأما المسائل الاجتهادية، وهي التي تكون فيها النوازل أو يكون فيها الدليل غير ظاهر، مما يحصل فيه الخلاف عن طريق الاجتهاد، فهذه قد اختلف السلف وما عاب بعضهم بعضا.
ولهذا نقول: إن طالب العلم يجب عليه أن يتحرى الحق، وأن لا يستعجل إذا اشتبه عليه الأمر، ثم ينظر إلى تحقيق المصالح الكبرى ودرء المفاسد، والناس طلبة العلم قد يتقاربون في فهم الأدلة وفي فهم المسائل؛
لكن يختلفون في أمرين:أما الأول في تحقيق المناط، وما من مسألة شرعية نازلة إلا والنظر فيها يكون من جهتين -كما قال الشاطبي- في الموافقات:
الأولى من جهة محل الدليل، يعني من جهة الدليل في نفسه وما دل عليه.
والثانية في تحقيق المناط، وهو إدراك المسألة لإلحاقها وجعلها تحت دليل،
فإذا كان الدليل موجودا ولكنه لم يدرك تحقيق المناط فيها وقع الاختلاف، وأكثر ما يقع الاختلاف في النوازل وفي الأمور الاجتهادية هو في تحقيق المناط، هل هذه تلحق بهذا أو تلحق بهذا، وهنا يتفاوت أهل العلم والنظر في ذلك، فإذا وقع هذا الأمر فإن المسألة إذا كان ليس فيها دليل ظاهر وبين فإنه لا مشاحة في أن يختلف الناس أو يختلف طلبة العلم أو يختلف العلماء، الأمر فيه سعة وينصح بعضهم بعضا ويناصح بعضهم بعضا حتى يصيروا إلى أمر؛ لكن ينبغي أن لا يتكلم الواحد والواحد في هذه المسائل الاجتهادية والنوازل العظيمة؛ بل تكون هذه من اختصاص الهيئات واختصاص مجموعة من أهل العلم يجتمعون ويبحثونها ويسدد بعضهم بعضا فيها؛ لأن من سنة السلف كفعل عمر أنه إذا جاء فيه مسألة جمع لها أهل بدر، وهو الخليفة الراشد، وهكذا كان كثير من أهل العلم يستشير ولا يستقل بالأمور الكبيرة في الأمة.
فإذا وقع اختلاف في المسائل الاجتهادية، قد يكون فيه سعة؛ لأن هذا نظر من جهة وقصده خير إن شاء الله في بابه وهذا نظر من جهة وقصده خير إن شاء وفي بابه؛ لكن ما ينبني عليه عمل، ينبني عليه مصير للأمة، فإنه يجب أن يكون هذا لعلماء الأمة الكبار يجتمعون ويصدرون عن رأي واحد في ذلك، وأن لا يكون هذا لأفراد طلبة العلم لأنها إذا حدثت الفتن والنزاعات والأقوال فيما يترتب عليه عمل، فإن هذا يكون مدعاة لحدوث أشياء.
لكن إذا كانت مسائل علمية ولو كان يتعلق بالاعتقاد وموقف الحدث الفلاني قد يختلف الناس، هؤلاء ينظرون من جهة، وهؤلاء ينظرون من جهة، وكل مجتهد في الخير إن شاء الله هو على صواب، فإذا وقع هذا فلا ينبغي أن يضلل بعضهم بعضا إذا لم يخالف الدليل أو كان وجهته في تحقيق المناط قريبة ليست بعيدة، ولا ينبغي أن يضلل بعضهم بعضا وأن يبغي بعضهم على بعض؛ لأنه من أعظم ما يكون من نتيجة الفتن أن يبغي بعض الأمة على بعض، وخاصةً طلبة العلم وأهل العلم، كونهم يختلفون في مسألة، يروح هذا يسب هذا وهذا يسب الآخر ويذم بعضهم بعضا، وكل يجرم الآخر ويحمل قوله على فساد في النية وعلى فساد في القصد وعلى فساد، دون رؤية بحقيقة الأمر، وما توخاه هذا وما توخاه ذاك، وما جعله في تحقيق مناط الحكم هنا وهنا، إن هذا يوقع في البغي.
وكما ذكر شارح الطحاوية ومر معنا في أواخر شرح الطحاوية أنه ما وقعت الاختلافات في الأمة ولا وقع بأس الأمة بعضها على بعض إلا من سببين عظيمين:
الأول التأويل.
والثاني البغي.
يتأول ثم بعد ذلك يبغي بعضهم على بعض.
لقي الشافعي رحمه الله تعالى عالما من علماء الحنفية أو نحو ذلك، عالما من العلماء، فناظره في مسألة فلم يتفقا، فلما تقابلا -وقد ذكر هذه الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة الشافعي في أول المجلد العاشر- فلما تقابلا أخذ الشافعي مبتدرا يد أخيه وقال له: ألا نكون إخوانا وإن اختلفنا في مسألة، ما الذي يضر، إذا لم يكن مخالفة لدليل ظاهر بيّن، وإنما اختلفوا في تنقيح المناط، اختلفوا في تمثيلها، اختلفوا في رؤية المصالح، ألا يكونون إخوانا طلبة العلم لابد أن يكونوا كلهم على شكل واحد وقول واحد، هذا قد لا يتيسر.
فهنا إذا اختلف أهل العلم يعذر بعضهم بعضا إذا كانت المسألة في المسائل الاجتهادية، وفيما لا يترتب عليه عمل للناس ويترتب عليه فتنة ونحو ذلك، وهذا أيضا قاله الإمام أحمد رحمه الله قال: إسحاق أخونا وإن كان يخالفنا في مسائل.
ولهذا ينبغي أن يتعلّم طالب العلم ويوطّن نفسه أن يتلقى من غيره ردّا عليه، أو أن يتلقى من طالب العلم الآخر نقدا له وتخطئة وربما شدة عليه.
محمد بن الحسن كتب الرد على سير الأوزاعي، ومالك رد على ابن أبي ذئب وابن أبي ذئب رد على مالك، وهكذا العلماء، وقصد الجميع هو الحق؛ لكن لا يَؤُول ذلك إلى أن يبغي بعضهم على بعض؛ لأنه إذا وقع ذلك فقد أصابهم الشيطان، إذا وقعوا في التأويل، فهذا قصده كذا، هذا يريد كذا، هذا يعمل لأجل كذا، ونحو ذلك من التأويلات الباطلة، إذا دخل التأويل ثم بغى بعضهم على بعض وقت الفتن الأعظم وهي تنافر القلوب وعدم الثقة.
فلهذا ينبغي أن يُحرص على الدليل، وأنه بعد النظر في الأدلة يحقق المناط الذي تناط المسألة به ثم بعد ذلك تلحق بالدليل وبالقواعد الشرعية والأصول المناسبة لها).