فما هي الهداية ؟
الهداية : دِلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب . وقيل : سلوك طريق يوصل إلى المطلوب .
وعرّفها ابن القيم بقوله : هي معرفة الحق والعملُ به .
فَعُلِمَ من هذا أن الهداية تُستطاع بفعل الأسباب بعد توفيق الله ، ولذا قال سبحانه :
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )
وقال عز وجل : ( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا )
وقال جل جلاله : ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى )
وقال سبحانه وبحمده : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ )
قال ابن القيّم : فعل الرب تعالى هو الهدى ، وفعل العبد هو الاهتداء ، وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي والعبد المهتدي . قال تعالى : ( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي )
وقال – رحمه الله – : (الفوائد 166 -171 ) : تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سببَ الهداية والإضلال . اهـ .
ولا بُدّ من فعل الأسباب والمجاهدة في الله حتى تحصل الهداية التامة ، لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )
قال ابن القيم ( الفوائد 87 ) : علّق سبحانه الهداية بالجهاد ، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً .... أي في ذات الله ، كما في الآية السابقة .
ولا يُتصوّر أن ملكاً من الملائكة سوف يأخذ بيد العبد للهداية ، فيأخذ بيده إلى المسجد أو يأخذ بيده ويُساعده على إخراج منكرات بيته أو محلِّه ، بل لا بُدّ أن تُبذل الأسباب أولاً ثم يسأل العبدُ ربَّه التوفيق .
ولذا كان الأنبياء والرسل يبذلون الأسباب المستطاعة ثم يسألون ربّهم التوفيق والإعانة .
وقد قسّم ابن رجب الناس إلى ثلاثة أقسام ، فقال : الأقسام ثلاثة : راشد ، وغاو ، وضال ؛ فالراشد عرف الحق واتبعه ، والغاوي عرفه ولم يتبعه ، والضال لم يعرفه بالكلية ؛ فكلُّ راشدٍ هو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامة فهو راشد ؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا . اهـ .
وقال رحمه الله : وإنما وَصَفَ – يعني النيّ صلى الله عليه وسلم - الخلفاءَ بالراشدين – في الحديث - ؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به ، والراشد ضد الغاوي ، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه . اهـ
وقد وصَف الله أتباع إبليس بأنهم من الغاوين ، فقال : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )
ووصَف الله الذي أوتيَ الآيات فردّها بأنه من الغاوين ، فقال : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
وفَرْقٌ بين الغواية والضلالة .
ولذا لما قال فرعون لموسى : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
ردّ عليه موسى بقوله : ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ )
أي قبل النبوة وقبل مجيء الرسالة .
وقد امتـنّ اللهُ تبارك وتعالى على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة العظيمة ، والمِنّـةِ الجسيمة فقال : ( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى )
وهذا يُفسِّرُه قولُه سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
فدلّ هذا على أن الهداية نعمة لا تحصل بتمامها إلا بفعل الأسباب .
وقد قال تبارك وتعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )
قال بعض العلماء في تفسير الآية : أي أنه لا يهديهم ؛ لأن القــوم عرفـوا الحق وشهدوا به وتيقّنوه وكفـروا عمـداً ، فمن أين تأتيهم الهداية ؟ فإن الذي تُرتجى هدايته من كان ضالا ولا يدرى أنه ضال ، بل يظن أنه على هدى فإذا عرف الهدى اهتدى ، وأما من عرف الحق وتيقنه وشهد به قلبه ثم اختار الكفر والضلال عليه فكيف يهدي اللهُ مثل هذا ؟
وقبل الدخول في الأسباب نتطرق إلى مراتب الهداية .
وقد قسّمها ابن القيم رحمه الله إلى أربع مراتب :
المرتبة الأولى :
الهداية العامة ، وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والآدمي لمصالِحِهِ التي بها قام أمْرُه .
قال تعالى : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )
فذكر أموراً أربعة : الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، فسـوّى خلقه وأتقنه وأحكمه ثم قدّر له أسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه إليها والهداية تعليم ، فذكر أنه الذي خلق وعلم ، كما ذكر نظير ذلك في أول سورة أَنْـزَلَها على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون أنه قال لموسى : ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وهذه المرتبة أسبقُ مراتب الهداية وأعمُّها . اهـ .
وهذه المرتبة هي التي قال الله فيها ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )
المرتبة الثانية :
هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته على عباده ، وهذه لا تستلزم الاهتداء التام .
قال تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )
يعني بيّنا لهم ودَلَلْناهم وعرّفناهم ، فآثروا الضلالة والعمى .
وقال تعالى : ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ )
المرتبة الثالثـة :
وهذه المرتبة أخص من الأولى وأعم من الثانية ، وهي هدى التوفيق والإلهام .
قال الله تعالى : ( وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فَعَمّ بالدعوة خلقه ، وخص بالهداية من شاء منهم . قال تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) مع قوله : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
فاثبت هداية الدعوة والبيان ونفي هداية التوفيق والإلهام ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الحاجة : من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي لـه ، وقال تعالى : ( إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ) أي من يضله الله لا يهتدي أبدا ، وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة المستلزمة للاهتداء ، وأما الثانية فشرط لا موجب ، فـلا يستحيل تخلف الهدى عنها بخلاف الثالثة ، فإن تَخَلُّف الهدى عنها مستحيل .
المرتبة الرابعة :
الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة والنار .
قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ )
وأما قول أهل الجنة : ( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ )
فيُحتمل أن يكونوا أرادوا الهداية إلى طريق الجنة ، وأن يكونوا أرادوا الهداية في الدنيا التي أوصلتهم إلى دار النعيم ، ولو قيل : إن كلا الأمرين مراد لهم ، وأنهم حمـدوا الله على هدايته لهم في الدنيا ، وهدايتهم إلى طريق الجنة كان أحسن وأبلغ . انتهى كلامه رحمه الله .
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ اقتصاص الخلق بعضهم من بعض ، ثم قال : فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا .
ويهديهم ربهم بسبب إيمانهم بالله عز وجل
قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ )
فَمَن هُدي في هذه الحياة الدنيا هُـديَ في الآخرة ، ( وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً )
وقد قال الله في أهل الجحيم : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24} مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ {25} بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ {26} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ {27} قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ {28} قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {29} وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ {30} فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ {31} فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ {32} فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ {33} إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ {34} إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ )
والمقصود بـ أَزْوَاجهم : نظراءهم وأشياعهم وأضرابهم .
ومن أسباب الهداية :
أولاً : التوحيد ، فهو أعظم أسباب الهداية ، ولذا لما ذَكرَ الله الشرك قال : ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا )
فالموحِّد على خير ، وهو إلى الخير أقرب .
وقال على لسان خليله إبراهيم : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )
فهذا وعدٌ بالهداية لأهل التوحيد .
ثانياً : امتثال ما أَمَـرَ الله بهِ ورسولُه ، واجتناب ما نَهى الله ورسوله عنه ، قال عز وجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا {66} وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيمًا {67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا )
قال ابن جرير – رحمه الله - : يعني بذلك جل ثناؤه ولو أنهم فعلوا ما يوعظـون به لكان خيرا لهم لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا أجراً يعني جـزاء وثوابـا عظيمـا وأشد تثبيتا لعزائمهـم وآرائهـم وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما ، يعني طريقا لا اعوجاج فيه ، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم ، وذلك الإسلام ، ومعنى قـولـه ولهديناهم : ولوفّقناهم للصراط المستقيم . اهـ
وقال الحافظ ابن كثير : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما يُنهون عنه لكان خيراً لهم أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي وأشد تثبيتا ، قال السدي : أي وأشد تصديقا ، وإذا لآتيناهم من دنا أي من عندنا أجرا عظيما يعني الجنة ، ولهديناهم صراطا مستقيما أي في الدنيا والآخرة . اهـ .
وإذا كانت الذنوب سبباً لسوء الخاتمة ، وللطبع على القلب ، كان تركها سبباً للهداية ، وأشد في الثّبات على دين الله .
فالمحافظة على الصلاة – مثلاً – وإقامتها كما أمر الله ، مما أُمِرَ به المسلم ، ثم هي سبب في الابتعاد عن الفواحش والمنكرات ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )
وبها يستعين العبد على الصبر على ما ينوبه في الحياة ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )
قال ابن كثير : إن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر .
وبها يستعين العبد على الشدائد : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )
وبها يستعين بالصبر على المصائب : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا {21} إِلَّا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ )
والأعمال الصالحة عموماً مما يُقرِّب إلى علاّم الغيوب .
ولما ذكر الله تبارك وتعالى جملة من أنبيائه ورسله قال لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم : ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )
وقال جلّ ذكره في وصف كتابه : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
ثالثاً : الإنابة والتوبة والرجوع إلى الله جل جلاله .
قال تبارك وتعالى : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ )
وقال سبحانه : ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ )
وهذه الثلاث : أعني التوحيد والسلامة من الشرك ، وفعل الطاعات وما أُمِرَ به العبد ، والإنابة إلى الله يجمعها قولُه تعالى: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ {17 } الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ )
فالذين اجتنبوا الشرك ، وأنابوا إلى الله ، واستمعوا القول فاتّبعوا أحسنه ، هم أهل الهداية .
والله تبارك وتعالى يُحبُّ التوابين ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ )
فإذا أحبّهم هداهم .
فمن تاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى أحبّه الله ، ومَن أحبّـه الله هداه بهداه
رابعاً : الاعتصام بالله جل جلاله .
قال سبحانه : ( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
وقال جل جلاله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا )
والاعتصام بالله يكون بالتمسك بحبل الله المتين ، التمسك بالقرآن العظيم .
قال سبحانه : ( إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا )
والتمسك بكتاب الله أمان بإذن الله من الضلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله . رواه مسلم .
وكذا التمسك بالسنة .
والقرآن يهدي للتي هي أقوم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فواضحٌ مما تقدّم
وأما في الآخرة فلقوله صلى الله عليه وسلم : يُقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها. رواه أحمد وأصحاب السنن .
وتكرر في الكتاب العزيز وصف القرآن بأنه هُدى للمؤمنين .
خامساً : الإخلاص لله تعالى ، فإن المسلم يعمل العمل ، ويظن أنه على شيء وليس كذلك .
قال سبحانه : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ )
وإن أقواماً يأتون يومَ القيامة ، فيبدوا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ، كما قال الحق سبحانه : ( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ )
وإن آخرين يَظُنّون أنهم يُحسنون صُنعا ، وليسوا كذلك .
قال سبحانه : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا )
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة . متفق عليه .
فإذا لم يكـن العمل خالصاً لله عز وجل كان سبباً في ضلال وانتكاس صاحبِه ، وكان وبالاً على صاحبه يوم القيامة .
سادساً : الدعاء ، والاجتهاد فيه ، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن
مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
وفيه أيضا عن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قل : اللهم اهدني وسددني ، وأذكر بالهدى هدايتك الطريق ، والسداد سداد السهم .
وعَلّمَ رسولُ الله سِبْطَه الحسن بن علي ، علّمه دعاء القنوت المشهور ، فقال الحسن : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت . رواه أبو داود وغيره .
ومـن دعائه صلى الله عليه وسلم : اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين . رواه أحمد والنسائي .
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : رب أعني ولا تُعن علي ، وانصرني ولا تنصر علي ، وامكر لي ولا تمكر علي ، واهدني ويسر الهدى لي ، وانصرني على من بغى علي رب اجعلني لك شكارا ، لك ذكارا ، لك رهابا ، لك مطواعا ، لك مخبتا ، إليك أواها منيبا ، رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبت حجتي وسدد لساني ، واهدِ قلبي ، واسلل سخيمة صدري . رواه أحمد والترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح .
ولما سُئلت عائشة - رضي الله عنها - بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت :كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . رواه مسلم
فَدَلّ على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الدعاء ، وإرشاده إليه ، وتعليمه لأصحابه وأحفاده
وفيما يرويه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تبارك وتعالى أنه قال : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم . رواه مسلم .
فاسأل ربك الهداية ، فقد قال خليلُ الله إبراهيمُ : ( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )
ومن دعاءِ المؤمنين : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )
سابعاً : المجاهدة على فعل الطاعات ، وترك المنكرات ، والصبر على ذلك .
قال تبارك وتعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )
ثامناً : كثرة ذكر الله تبارك وتعالى ، فإن الإعراض عن ذكر الله سبب في الضلال ، كما في قوله تعالى : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ )
وهذه الهداية لا تكونُ مهيأةً في كلِّ وقتٍ للعبدِ المسلم ، فإن الحقّ سبحانه وتعالى قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )
وفي هذا حثٌ على المبادرةِ بالاستجابة لله ولرسوله ، قبل أن يأتي يومٌ يَبْحَثُ فيه المسلمُ عن قلبه فلا يجده ، أي أنه يُحالُ بينه وبين قلبه .
وإليك هذه القِصّةً التي تدل على صحة هذا القول، وأنه قد يُحال بين المرء وبين قلبه .
هذه القصة لرجلٍ كان من ملوك النصارى فأسلم . وهو جبلة بن الأيهم .
أسلم في أيامِ عمر ، وحج معه فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطئ إزاره رجلٌ من بني فزارة ، فانحلّ إزارُه فرفع جبلةُ يده فهشم أنف الفزاري ، فاستعدى عليه عمر ، فاستحضره عمر فاعترف ، ثم طلبه للقصاص فاستنكف واستكبر ، وسأل عمرَ أن يمهله ليلته تلك ، فلما ادْلَهَمّ الليل ركب في قومه ومن أطاعه وسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم وراجع دينه دين السوء ، أي أنه ارتد عن دين الله .
ولما بدا له أن يعود حِيْلَ بينه وبين ما أراد ، فكان مما قال :
تنصَّرتْ الأشرافُ من عارِ لطمةٍ وما كان فيها لو صبرتُ لها ضـررْ
تكنّفني فيهـا اللجـاجُ ونخـوةٌ وبِعْتُ بها العينَ الصحيحةَ بالعَـوَرْ
فيا ليت أمي لـم تلدني وليتني رجعتُ إلى القول الذي قاله عمـرْ
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ وكنتُ أسيراً في ربيعـة أو مضـر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ أجلس قومي ذاهب السمع والبصر
هذه القصة ذكرها المؤرخون ، أمثال ابن الجوزي وابن عساكر وابن كثير وغيرُهم .
هذه إجمالاً واختصاراً أسباب الهداية .
وبضدِّها تظهر الأشياء ، فأذكر موانع الهداية كما ذكرها ابن القيم باختصار :
السبب الأول : ضعف معرفته بهذه النعمة ، وأنه لم يقدرها قدرها .
وانظر – رعاك الله – بعين بصيرتك إلى حال أكثر الناس ، الذين ربما بلغوا شأنا عظيماً في أمور الدنيا ، وهم يُقيمون على الشرك والضلالة ، ويصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )
السبب الثاني : عدم الأهلية … فإذا كان القلب قاسيا حجريا لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه كما لا تُنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبُذر فيها كل بذر ، فإذا كان القلب قاسيا غليظا جافيا لا يعمل فيه العلم شيئا وكذلك إذا كان مريضا مهينا مائيا لا صلابـة فيه ولا قوة ولا عزيمـة
لم يؤثر فيه العلم .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه مابعثني الله به فعلِم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به . كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
السبب الثالث :قيام مانع وهو إما حسد أو كبر ، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر ، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله ، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم . اهـ
ومن ذلك ما ذكره الله عن المشركين : ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً)
فكان الجواب : ( قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً )
وحقيقة المسألة تعنّت واستكبار ، وإلا لو جاءهم ملك لقالوا : هذا تختلف طبيعته عن طبيعتنا ، فهو من عالَم آخر ، ويُطيق ما لا نُطيق !
وقد قال الله تبارك وتعالى : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ )
فسيقولون حينها هذا ليس بِمَلَك !
السبب الرابع : - مما ذكره ابن القيم - مانع الرياسة والملك ، وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبـرٌ عن الانقياد للحق ، لكن لا يمكنه أن يجتمع لـه الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه واقرُّوا بها باطنا واحبوا الدخول في دينه لكن خافوا على ملكهم . اهـ .
وقد أخبر الله عن فرعون أنه ما مَنَعَه من الإسلام والانقياد إلا ذلك ، وإلا فقد أيقن فرعون بصدق موسى ، قال الله عز وجل : (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )
ومثلهم الملأ الذين حكى الله أخبارهم ، فكانوا يخشون إن آمنوا أن تذهب هيمنتهم ، ويذهب جاههم ، ويتساووا بالعبيد ، قال الله جل جلاله : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {4} أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ {6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ {7} أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ )
السبب الخامس : مانع الشهوة والمال وهو الذي منع كثيراً من آهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته ، فيدخلون عليه منها ، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا : إن محمدا يُحَرِّم الزنا ويحرم الخمر .
وهذا الذي مَنَع أبا جهل من الإسلام ، فإنه لما أتاه الأخنس فدخل عليه في بيته قال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ، قال : تنازعنا ونحن بنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكُنّا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ، ولا نصدقه ، فقام عنه الأخنس ، وتركه .
السبب السادس : محبة الآهل والأقارب والعشيرة ؛ يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم ، وهذا سبب بقاء خلقٍ كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم .
ومن ذلك أن بعض أهل الباطل ممن انتحلوا مذاهب هدّامة لما تبيّن لهم الحق ما منعهم أن يتّبعوه ويهتدوا إلا أنهم يخشون أن تذهب مكانتُهم أو تتلاشى .
السبب السابع : محبة الدار والوطن ، وإن لم يكــن لـه بها عشيرة ولا أقارب لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنوى ، فيضنّ بوطنه .
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام فقال له : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ، فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول ، فعصاه فهاجر قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال ، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، فعصاه فجاهد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة .
السبب الثامن : مَنْ تخيّل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده وذمّـاً لهم ، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال .
ولذا لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة وجاءه أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب - آخر ما كلمهم - : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله . كما في الصحيحين .
فهذا مانعٌ من موانع الهداية ، بالإضافة إلى صُحبة السوء ، فإنها تمنع من الهداية والاستقامة والالتزام والتمسّك بشرع الله .
فيُسمعون صاحبهم الذي ربما أراد الاستقامة على دين الله عبارات النبز والاستهزاء والسخرية حرصاً منهم على بقاءه ضالاً كحالهم .
السبب التاسع :
متابعة من يعاديه من الناس للرسول وسبقه إلى الدخول في دينه وتخصصه وقربه منه ، وهذا القدر منع كثيرا من اتِّباع الهدى ؛ يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب أرضا يمشي عليها ويقصد مخالفته ومناقضته ، فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله وان كان لا عداوة بينه وبينهم وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار .
ومن ذلك قول بعض أهل الباطل : الخير فيما خالف العامة .
السبب العاشر :
مانع الإلف والعادة والمنشأ ؛ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة ولهذا قيل هي طبيعة ثانية فيربى الرجل على المقالة وينشأ عليها صغيرا فيتربى قلبه ونفسه عليها كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد ولا يعقل نفسه إلا عليها ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال ويصعب عليه الزوال وهذا السبب وإن كان اضعف الأسباب معنى فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل ليس مع أكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربي تربى عليه طفلا لا يعرف غيرها ولا يحسن به فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية . اهـ .
وقد أخبر الله عن المشركين أنهم ما منعهم من الهداية واتِّباع الرسول إلا أنهم وجدوا آبائهم على هذا الدين وهم ألِفوه ونشأوا عليه : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ {24} فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )
وهذا المانع لم يكن ليمنع الصحابة رضي الله عنهم مِن مُتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصديق خَبَرِه ، وامتثال أمره ، ولو كان مُخالِفاً لطبائع نفوسهم ، كما في خَبَرِ تحريم الخمر .
قال أنس : إني لقائم أسقيها - أي الخمر - أبا طلحةَ وأبا أيوبَ ورجالاً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ، إذ جاء رجلٌ فقال : هل بلغكم الخبر قلنا : لا . قال : فإن الخمر قد حُرِّمَتْ . فقال : يا أنس ! أرِقْ هذه القِلال ، قال : فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبرِ الرجل . متفق عليه .
ومن الأسباب التي يُمكن أن تضاف :
= الشرك بالله ؛ فإنه أعظمُ أسباب الضلال ، قال الله على لسان نبيه ومُصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ )
وقال جلّ ذِكره : ( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
= عدم الانقياد لأوامر الله وعدم السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {167} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً {168} إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا )
وإذا كان اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أسباب الهداية ، كما في قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {157} قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
= فإن عدم التصديق بخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو التشكيك فيما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب ضلال .
قال جل ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
= اتِّباع الهوى ، قال سبحانه وتعالى لنبيِّه داود عليه الصلاة والسلام : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )
وحذّر الله عباده المؤمنين أن يكونوا كالذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، وبيّن تبارك وتعالى أن سبب زيغه وضلاله هو اتّباع الهوى ، فقال جل جلاله : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
فَحَذار « فكم تعرقل في فخّ الهوى جناح حازم ».
فهذا مركب الهوى قلّ من ركبه ثم تخلّى عنه ، لأنه يهوي بصاحبه كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه.
وقد حذّر الله تبارك وتعالى من الزيغ الذي هو نتيجةٌ لاتّباع الهوى ، فقال سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
قال ابن المبارك : إن البصراء لا يأمنون من أربع : ذنب قد مضى لا يَدري ما يَصنع فيه الرب عز وجل ، وعمر قد بقي لايدري ما فيه من الهلكة ، وفضل قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج ، وضلالة قد زُيِّنت يراها هدى ، وزيغ قلب ساعة ، فقد يُسلب المرء دينُه ولا يشعر .
ولقد حرص السلف على هداية الخلق إلى الصراط المستقيم ، لعلمهم بفضل هداية الخلق ، وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالب حين بعثه يوم خيبر ، فقال له : فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم . متفق عليه .
ولو لزم الأمر أن يشتري الهداية بماله لما كان ذلك مُستكثراً .
ومما ورد في كتب التاريخ والتراجم أن سعيد بن عثمان بن عفان لما استعمله معاوية رضي الله عنه على خراسان فمضى سعيد بجنده في طريق فارس فلقيه بها مالك بن الريب - وكان شاعرا فاتكا لصا و هو من شعراء الإسـلام في أول أيام بني أمية - و كان من أجمل الناس وجها و أحسنهم ثيابا ، فلما رآه سعيد أعجبه ، و قال له :مالك و يحك ! تفسد نفسك بقطع الطريق ، وما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العبث و الفساد ، وفيك هذا الفضل ؟ قال : يدعوني إليه العجـز عن المعالي ومساواة ذوي المروءات ، و مكافأة الإخوان . قال سعيد : فإن أنا أغنيتك واستصحبتك ، أتكف عما كنت تفعل ؟ قال : أي و الله أيها الأمير أكف كفّاً لم يكف أحد أحسن منه . قال : فاستصحبه وأجرى له خمسمائة درهم في كل شهر
وهو الذي يقول :
ألم تَرَني بِعتُ الضلالة بالهدى وأصبحتُ في جيش ابن عفّان غازيا
فاحرص رعاك الله أن تكون مشعل هداية لبيتك ، فانقل ما تسمعه إلى زوجتك وبيتك .
و ليُعلم أن الهداية نعمة عُظيمة ، ومنَّةٌ جسيمة ، فلا تحصل إلا بفعل السباب ، وببذل الوسع في تحصيلها .
قال ابن القيم : إن لم يَصرف عنه الموانع والصوارف التي تمنع موجب الهداية وتصرفها لم ينتفع بالهداية ولم يتم مقصودها له ، فإن الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه ، ومعلوم أن وساوس العبد وخواطرَه وشهواتِ الغيّ في قلبه كل منها مانعُ وصول أثر الهداية إليه ، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تامّاً فحاجاته إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه وهي أعظم حاجة للعبد .
أخيراً – رعاك الله – استمع إلى هذه الآيات وتأمل قول الله : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ {54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ {56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )
فهو يقول : لو أن الله هداني ، وهو لم يأخذ بالأسباب الجالبة للهداية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( مجموع الفتاوى 19/ 99 ، 100 ) : وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العُجم ، فإن الحمار والجمل يميّـز بين الشعير والتراب ، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فـاعلهـا في معاشـه ومعـاده … ولولا الرسالـة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد ، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف مِنّة عليهم أن أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبيّن لهم الصراط المستقيم ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشر حالاً منها ، فَمَنْ قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية ، ومن ردّها وخرج عنها فهو من شر البرية ، وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم – ثم ذَكَرَ حديث أبي موسى المتقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم – فقال : فالحمد لله الذى أرسل الينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفى ضلال مبين ، وقال اهل الجنة : ( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ )
والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا مـا أشرقت عليه شمس الرسالة ، وأسس بنيانه عليها ، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم فاذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خرب الله العالم العلوى والسفلى وأقام القيامة وليست حاجة أهل الأرض الى الرسول كحاجتهم الى الشمس والقمر والرياح والمطر ولا كحاجة الانسان الى حياته ولا كحاجة العين الى ضوئها والجسم الى الطعام والشراب بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه فى أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده . انتهى كلامه رحمه الله .
وإن تعجب فاعجب لمسلم يسأل ربَّه عز وجل في اليوم والليلة سبع عشرة مرة يسأله هداية الصراط المستقيم وأن يُعيذه من طُرق المغضوب عليهم وهم اليهود وطرق الضالين وهم النصارى ، ثم يتّبع طريقتهم ، ويسلك أثرهم ويتشبّه بهم
الهداية : دِلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب . وقيل : سلوك طريق يوصل إلى المطلوب .
وعرّفها ابن القيم بقوله : هي معرفة الحق والعملُ به .
فَعُلِمَ من هذا أن الهداية تُستطاع بفعل الأسباب بعد توفيق الله ، ولذا قال سبحانه :
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )
وقال عز وجل : ( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا )
وقال جل جلاله : ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى )
وقال سبحانه وبحمده : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ )
قال ابن القيّم : فعل الرب تعالى هو الهدى ، وفعل العبد هو الاهتداء ، وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي والعبد المهتدي . قال تعالى : ( مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي )
وقال – رحمه الله – : (الفوائد 166 -171 ) : تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سببَ الهداية والإضلال . اهـ .
ولا بُدّ من فعل الأسباب والمجاهدة في الله حتى تحصل الهداية التامة ، لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )
قال ابن القيم ( الفوائد 87 ) : علّق سبحانه الهداية بالجهاد ، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً .... أي في ذات الله ، كما في الآية السابقة .
ولا يُتصوّر أن ملكاً من الملائكة سوف يأخذ بيد العبد للهداية ، فيأخذ بيده إلى المسجد أو يأخذ بيده ويُساعده على إخراج منكرات بيته أو محلِّه ، بل لا بُدّ أن تُبذل الأسباب أولاً ثم يسأل العبدُ ربَّه التوفيق .
ولذا كان الأنبياء والرسل يبذلون الأسباب المستطاعة ثم يسألون ربّهم التوفيق والإعانة .
وقد قسّم ابن رجب الناس إلى ثلاثة أقسام ، فقال : الأقسام ثلاثة : راشد ، وغاو ، وضال ؛ فالراشد عرف الحق واتبعه ، والغاوي عرفه ولم يتبعه ، والضال لم يعرفه بالكلية ؛ فكلُّ راشدٍ هو مهتد ، وكل مهتدٍ هدايةً تامة فهو راشد ؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا . اهـ .
وقال رحمه الله : وإنما وَصَفَ – يعني النيّ صلى الله عليه وسلم - الخلفاءَ بالراشدين – في الحديث - ؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به ، والراشد ضد الغاوي ، والغاوي من عرف الحق وعمل بخلافه . اهـ
وقد وصَف الله أتباع إبليس بأنهم من الغاوين ، فقال : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )
ووصَف الله الذي أوتيَ الآيات فردّها بأنه من الغاوين ، فقال : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
وفَرْقٌ بين الغواية والضلالة .
ولذا لما قال فرعون لموسى : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ )
ردّ عليه موسى بقوله : ( قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ )
أي قبل النبوة وقبل مجيء الرسالة .
وقد امتـنّ اللهُ تبارك وتعالى على نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة العظيمة ، والمِنّـةِ الجسيمة فقال : ( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى )
وهذا يُفسِّرُه قولُه سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
فدلّ هذا على أن الهداية نعمة لا تحصل بتمامها إلا بفعل الأسباب .
وقد قال تبارك وتعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )
قال بعض العلماء في تفسير الآية : أي أنه لا يهديهم ؛ لأن القــوم عرفـوا الحق وشهدوا به وتيقّنوه وكفـروا عمـداً ، فمن أين تأتيهم الهداية ؟ فإن الذي تُرتجى هدايته من كان ضالا ولا يدرى أنه ضال ، بل يظن أنه على هدى فإذا عرف الهدى اهتدى ، وأما من عرف الحق وتيقنه وشهد به قلبه ثم اختار الكفر والضلال عليه فكيف يهدي اللهُ مثل هذا ؟
وقبل الدخول في الأسباب نتطرق إلى مراتب الهداية .
وقد قسّمها ابن القيم رحمه الله إلى أربع مراتب :
المرتبة الأولى :
الهداية العامة ، وهي هداية كل مخلوق من الحيوان والآدمي لمصالِحِهِ التي بها قام أمْرُه .
قال تعالى : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )
فذكر أموراً أربعة : الخلق والتسوية والتقدير والهداية ، فسـوّى خلقه وأتقنه وأحكمه ثم قدّر له أسباب مصالحه في معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه إليها والهداية تعليم ، فذكر أنه الذي خلق وعلم ، كما ذكر نظير ذلك في أول سورة أَنْـزَلَها على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقال تعالى حكاية عن عدوه فرعون أنه قال لموسى : ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وهذه المرتبة أسبقُ مراتب الهداية وأعمُّها . اهـ .
وهذه المرتبة هي التي قال الله فيها ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )
المرتبة الثانية :
هداية البيان والدلالة التي أقام بها حجته على عباده ، وهذه لا تستلزم الاهتداء التام .
قال تعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )
يعني بيّنا لهم ودَلَلْناهم وعرّفناهم ، فآثروا الضلالة والعمى .
وقال تعالى : ( وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ )
المرتبة الثالثـة :
وهذه المرتبة أخص من الأولى وأعم من الثانية ، وهي هدى التوفيق والإلهام .
قال الله تعالى : ( وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فَعَمّ بالدعوة خلقه ، وخص بالهداية من شاء منهم . قال تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ ) مع قوله : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
فاثبت هداية الدعوة والبيان ونفي هداية التوفيق والإلهام ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في تشهد الحاجة : من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي لـه ، وقال تعالى : ( إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ) أي من يضله الله لا يهتدي أبدا ، وهذه الهداية الثالثة هي الهداية الموجبة المستلزمة للاهتداء ، وأما الثانية فشرط لا موجب ، فـلا يستحيل تخلف الهدى عنها بخلاف الثالثة ، فإن تَخَلُّف الهدى عنها مستحيل .
المرتبة الرابعة :
الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة والنار .
قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ )
وأما قول أهل الجنة : ( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ )
فيُحتمل أن يكونوا أرادوا الهداية إلى طريق الجنة ، وأن يكونوا أرادوا الهداية في الدنيا التي أوصلتهم إلى دار النعيم ، ولو قيل : إن كلا الأمرين مراد لهم ، وأنهم حمـدوا الله على هدايته لهم في الدنيا ، وهدايتهم إلى طريق الجنة كان أحسن وأبلغ . انتهى كلامه رحمه الله .
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ اقتصاص الخلق بعضهم من بعض ، ثم قال : فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا .
ويهديهم ربهم بسبب إيمانهم بالله عز وجل
قال الله تبارك وتعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ )
فَمَن هُدي في هذه الحياة الدنيا هُـديَ في الآخرة ، ( وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً )
وقد قال الله في أهل الجحيم : ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ {22} مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ {23} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24} مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ {25} بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ {26} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ {27} قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ {28} قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {29} وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ {30} فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ {31} فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ {32} فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ {33} إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ {34} إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ )
والمقصود بـ أَزْوَاجهم : نظراءهم وأشياعهم وأضرابهم .
ومن أسباب الهداية :
أولاً : التوحيد ، فهو أعظم أسباب الهداية ، ولذا لما ذَكرَ الله الشرك قال : ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا )
فالموحِّد على خير ، وهو إلى الخير أقرب .
وقال على لسان خليله إبراهيم : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )
فهذا وعدٌ بالهداية لأهل التوحيد .
ثانياً : امتثال ما أَمَـرَ الله بهِ ورسولُه ، واجتناب ما نَهى الله ورسوله عنه ، قال عز وجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا {66} وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيمًا {67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا )
قال ابن جرير – رحمه الله - : يعني بذلك جل ثناؤه ولو أنهم فعلوا ما يوعظـون به لكان خيرا لهم لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعظوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا أجراً يعني جـزاء وثوابـا عظيمـا وأشد تثبيتا لعزائمهـم وآرائهـم وأقوى لهم على أعمالهم لهدايتنا إياهم صراطا مستقيما ، يعني طريقا لا اعوجاج فيه ، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم ، وذلك الإسلام ، ومعنى قـولـه ولهديناهم : ولوفّقناهم للصراط المستقيم . اهـ
وقال الحافظ ابن كثير : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به وتركوا ما يُنهون عنه لكان خيراً لهم أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي وأشد تثبيتا ، قال السدي : أي وأشد تصديقا ، وإذا لآتيناهم من دنا أي من عندنا أجرا عظيما يعني الجنة ، ولهديناهم صراطا مستقيما أي في الدنيا والآخرة . اهـ .
وإذا كانت الذنوب سبباً لسوء الخاتمة ، وللطبع على القلب ، كان تركها سبباً للهداية ، وأشد في الثّبات على دين الله .
فالمحافظة على الصلاة – مثلاً – وإقامتها كما أمر الله ، مما أُمِرَ به المسلم ، ثم هي سبب في الابتعاد عن الفواحش والمنكرات ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )
وبها يستعين العبد على الصبر على ما ينوبه في الحياة ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )
قال ابن كثير : إن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر .
وبها يستعين العبد على الشدائد : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ )
وبها يستعين بالصبر على المصائب : ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا {19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا {20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا {21} إِلَّا الْمُصَلِّينَ {22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ )
والأعمال الصالحة عموماً مما يُقرِّب إلى علاّم الغيوب .
ولما ذكر الله تبارك وتعالى جملة من أنبيائه ورسله قال لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم : ( أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )
وقال جلّ ذكره في وصف كتابه : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
ثالثاً : الإنابة والتوبة والرجوع إلى الله جل جلاله .
قال تبارك وتعالى : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ )
وقال سبحانه : ( اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ )
وهذه الثلاث : أعني التوحيد والسلامة من الشرك ، وفعل الطاعات وما أُمِرَ به العبد ، والإنابة إلى الله يجمعها قولُه تعالى: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ {17 } الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ )
فالذين اجتنبوا الشرك ، وأنابوا إلى الله ، واستمعوا القول فاتّبعوا أحسنه ، هم أهل الهداية .
والله تبارك وتعالى يُحبُّ التوابين ، كما في قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ )
فإذا أحبّهم هداهم .
فمن تاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى أحبّه الله ، ومَن أحبّـه الله هداه بهداه
رابعاً : الاعتصام بالله جل جلاله .
قال سبحانه : ( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
وقال جل جلاله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا )
والاعتصام بالله يكون بالتمسك بحبل الله المتين ، التمسك بالقرآن العظيم .
قال سبحانه : ( إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا )
والتمسك بكتاب الله أمان بإذن الله من الضلال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله . رواه مسلم .
وكذا التمسك بالسنة .
والقرآن يهدي للتي هي أقوم في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فواضحٌ مما تقدّم
وأما في الآخرة فلقوله صلى الله عليه وسلم : يُقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها. رواه أحمد وأصحاب السنن .
وتكرر في الكتاب العزيز وصف القرآن بأنه هُدى للمؤمنين .
خامساً : الإخلاص لله تعالى ، فإن المسلم يعمل العمل ، ويظن أنه على شيء وليس كذلك .
قال سبحانه : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ )
وإن أقواماً يأتون يومَ القيامة ، فيبدوا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ، كما قال الحق سبحانه : ( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ )
وإن آخرين يَظُنّون أنهم يُحسنون صُنعا ، وليسوا كذلك .
قال سبحانه : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا )
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة . متفق عليه .
فإذا لم يكـن العمل خالصاً لله عز وجل كان سبباً في ضلال وانتكاس صاحبِه ، وكان وبالاً على صاحبه يوم القيامة .
سادساً : الدعاء ، والاجتهاد فيه ، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن
مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى
وفيه أيضا عن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قل : اللهم اهدني وسددني ، وأذكر بالهدى هدايتك الطريق ، والسداد سداد السهم .
وعَلّمَ رسولُ الله سِبْطَه الحسن بن علي ، علّمه دعاء القنوت المشهور ، فقال الحسن : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت . رواه أبو داود وغيره .
ومـن دعائه صلى الله عليه وسلم : اللهم زينا بزينة الإيمان ، واجعلنا هداة مهتدين . رواه أحمد والنسائي .
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : رب أعني ولا تُعن علي ، وانصرني ولا تنصر علي ، وامكر لي ولا تمكر علي ، واهدني ويسر الهدى لي ، وانصرني على من بغى علي رب اجعلني لك شكارا ، لك ذكارا ، لك رهابا ، لك مطواعا ، لك مخبتا ، إليك أواها منيبا ، رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبت حجتي وسدد لساني ، واهدِ قلبي ، واسلل سخيمة صدري . رواه أحمد والترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح .
ولما سُئلت عائشة - رضي الله عنها - بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت :كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . رواه مسلم
فَدَلّ على اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الدعاء ، وإرشاده إليه ، وتعليمه لأصحابه وأحفاده
وفيما يرويه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تبارك وتعالى أنه قال : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم . رواه مسلم .
فاسأل ربك الهداية ، فقد قال خليلُ الله إبراهيمُ : ( لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ )
ومن دعاءِ المؤمنين : ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )
سابعاً : المجاهدة على فعل الطاعات ، وترك المنكرات ، والصبر على ذلك .
قال تبارك وتعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )
ثامناً : كثرة ذكر الله تبارك وتعالى ، فإن الإعراض عن ذكر الله سبب في الضلال ، كما في قوله تعالى : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ {36} وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ )
وهذه الهداية لا تكونُ مهيأةً في كلِّ وقتٍ للعبدِ المسلم ، فإن الحقّ سبحانه وتعالى قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )
وفي هذا حثٌ على المبادرةِ بالاستجابة لله ولرسوله ، قبل أن يأتي يومٌ يَبْحَثُ فيه المسلمُ عن قلبه فلا يجده ، أي أنه يُحالُ بينه وبين قلبه .
وإليك هذه القِصّةً التي تدل على صحة هذا القول، وأنه قد يُحال بين المرء وبين قلبه .
هذه القصة لرجلٍ كان من ملوك النصارى فأسلم . وهو جبلة بن الأيهم .
أسلم في أيامِ عمر ، وحج معه فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطئ إزاره رجلٌ من بني فزارة ، فانحلّ إزارُه فرفع جبلةُ يده فهشم أنف الفزاري ، فاستعدى عليه عمر ، فاستحضره عمر فاعترف ، ثم طلبه للقصاص فاستنكف واستكبر ، وسأل عمرَ أن يمهله ليلته تلك ، فلما ادْلَهَمّ الليل ركب في قومه ومن أطاعه وسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم وراجع دينه دين السوء ، أي أنه ارتد عن دين الله .
ولما بدا له أن يعود حِيْلَ بينه وبين ما أراد ، فكان مما قال :
تنصَّرتْ الأشرافُ من عارِ لطمةٍ وما كان فيها لو صبرتُ لها ضـررْ
تكنّفني فيهـا اللجـاجُ ونخـوةٌ وبِعْتُ بها العينَ الصحيحةَ بالعَـوَرْ
فيا ليت أمي لـم تلدني وليتني رجعتُ إلى القول الذي قاله عمـرْ
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ وكنتُ أسيراً في ربيعـة أو مضـر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ أجلس قومي ذاهب السمع والبصر
هذه القصة ذكرها المؤرخون ، أمثال ابن الجوزي وابن عساكر وابن كثير وغيرُهم .
هذه إجمالاً واختصاراً أسباب الهداية .
وبضدِّها تظهر الأشياء ، فأذكر موانع الهداية كما ذكرها ابن القيم باختصار :
السبب الأول : ضعف معرفته بهذه النعمة ، وأنه لم يقدرها قدرها .
وانظر – رعاك الله – بعين بصيرتك إلى حال أكثر الناس ، الذين ربما بلغوا شأنا عظيماً في أمور الدنيا ، وهم يُقيمون على الشرك والضلالة ، ويصدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى : ( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )
السبب الثاني : عدم الأهلية … فإذا كان القلب قاسيا حجريا لا يقبل تزكية ولا تؤثر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه كما لا تُنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كل مطر وبُذر فيها كل بذر ، فإذا كان القلب قاسيا غليظا جافيا لا يعمل فيه العلم شيئا وكذلك إذا كان مريضا مهينا مائيا لا صلابـة فيه ولا قوة ولا عزيمـة
لم يؤثر فيه العلم .
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه مابعثني الله به فعلِم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به . كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه .
السبب الثالث :قيام مانع وهو إما حسد أو كبر ، وذلك مانع إبليس من الانقياد للأمر ، وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله ، وبه تخلف الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحة نبوته ومن جرى مجراهم . اهـ
ومن ذلك ما ذكره الله عن المشركين : ( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً)
فكان الجواب : ( قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً )
وحقيقة المسألة تعنّت واستكبار ، وإلا لو جاءهم ملك لقالوا : هذا تختلف طبيعته عن طبيعتنا ، فهو من عالَم آخر ، ويُطيق ما لا نُطيق !
وقد قال الله تبارك وتعالى : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ )
فسيقولون حينها هذا ليس بِمَلَك !
السبب الرابع : - مما ذكره ابن القيم - مانع الرياسة والملك ، وإن لم يقم بصاحبه حسد ولا تكبـرٌ عن الانقياد للحق ، لكن لا يمكنه أن يجتمع لـه الانقياد وملكه ورياسته فيضن بملكه ورياسته كحال هرقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوته وصدقه واقرُّوا بها باطنا واحبوا الدخول في دينه لكن خافوا على ملكهم . اهـ .
وقد أخبر الله عن فرعون أنه ما مَنَعَه من الإسلام والانقياد إلا ذلك ، وإلا فقد أيقن فرعون بصدق موسى ، قال الله عز وجل : (فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )
ومثلهم الملأ الذين حكى الله أخبارهم ، فكانوا يخشون إن آمنوا أن تذهب هيمنتهم ، ويذهب جاههم ، ويتساووا بالعبيد ، قال الله جل جلاله : ( وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ {4} أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ {6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ {7} أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ )
السبب الخامس : مانع الشهوة والمال وهو الذي منع كثيراً من آهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته ، فيدخلون عليه منها ، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا : إن محمدا يُحَرِّم الزنا ويحرم الخمر .
وهذا الذي مَنَع أبا جهل من الإسلام ، فإنه لما أتاه الأخنس فدخل عليه في بيته قال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ، قال : تنازعنا ونحن بنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكُنّا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ، ولا نصدقه ، فقام عنه الأخنس ، وتركه .
السبب السادس : محبة الآهل والأقارب والعشيرة ؛ يرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم ، وهذا سبب بقاء خلقٍ كثير على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم .
ومن ذلك أن بعض أهل الباطل ممن انتحلوا مذاهب هدّامة لما تبيّن لهم الحق ما منعهم أن يتّبعوه ويهتدوا إلا أنهم يخشون أن تذهب مكانتُهم أو تتلاشى .
السبب السابع : محبة الدار والوطن ، وإن لم يكــن لـه بها عشيرة ولا أقارب لكن يرى أن في متابعة الرسول خروجه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنوى ، فيضنّ بوطنه .
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام فقال له : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك ، فعصاه فأسلم ، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول ، فعصاه فهاجر قال : ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : هو جهاد النفس والمال ، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، فعصاه فجاهد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة .
السبب الثامن : مَنْ تخيّل أن في الإسلام ومتابعة الرسول إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده وذمّـاً لهم ، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال .
ولذا لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة وجاءه أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب - آخر ما كلمهم - : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله . كما في الصحيحين .
فهذا مانعٌ من موانع الهداية ، بالإضافة إلى صُحبة السوء ، فإنها تمنع من الهداية والاستقامة والالتزام والتمسّك بشرع الله .
فيُسمعون صاحبهم الذي ربما أراد الاستقامة على دين الله عبارات النبز والاستهزاء والسخرية حرصاً منهم على بقاءه ضالاً كحالهم .
السبب التاسع :
متابعة من يعاديه من الناس للرسول وسبقه إلى الدخول في دينه وتخصصه وقربه منه ، وهذا القدر منع كثيرا من اتِّباع الهدى ؛ يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب أرضا يمشي عليها ويقصد مخالفته ومناقضته ، فيراه قد اتبع الحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله وان كان لا عداوة بينه وبينهم وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار .
ومن ذلك قول بعض أهل الباطل : الخير فيما خالف العامة .
السبب العاشر :
مانع الإلف والعادة والمنشأ ؛ فإن العادة قد تقوى حتى تغلب حكم الطبيعة ولهذا قيل هي طبيعة ثانية فيربى الرجل على المقالة وينشأ عليها صغيرا فيتربى قلبه ونفسه عليها كما يتربى لحمه وعظمه على الغذاء المعتاد ولا يعقل نفسه إلا عليها ثم يأتيه العلم وهلة واحدة يريد إزالتها وإخراجها من قلبه وأن يسكن موضعها فيعسر عليه الانتقال ويصعب عليه الزوال وهذا السبب وإن كان اضعف الأسباب معنى فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل ليس مع أكثرهم بل جميعهم إلا ما عسى أن يشذ إلا عادة ومربي تربى عليه طفلا لا يعرف غيرها ولا يحسن به فدين العوايد هو الغالب على أكثر الناس فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعة ثانية . اهـ .
وقد أخبر الله عن المشركين أنهم ما منعهم من الهداية واتِّباع الرسول إلا أنهم وجدوا آبائهم على هذا الدين وهم ألِفوه ونشأوا عليه : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ {23} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ {24} فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )
وهذا المانع لم يكن ليمنع الصحابة رضي الله عنهم مِن مُتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصديق خَبَرِه ، وامتثال أمره ، ولو كان مُخالِفاً لطبائع نفوسهم ، كما في خَبَرِ تحريم الخمر .
قال أنس : إني لقائم أسقيها - أي الخمر - أبا طلحةَ وأبا أيوبَ ورجالاً من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا ، إذ جاء رجلٌ فقال : هل بلغكم الخبر قلنا : لا . قال : فإن الخمر قد حُرِّمَتْ . فقال : يا أنس ! أرِقْ هذه القِلال ، قال : فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبرِ الرجل . متفق عليه .
ومن الأسباب التي يُمكن أن تضاف :
= الشرك بالله ؛ فإنه أعظمُ أسباب الضلال ، قال الله على لسان نبيه ومُصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ )
وقال جلّ ذِكره : ( قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
= عدم الانقياد لأوامر الله وعدم السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا {167} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً {168} إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا )
وإذا كان اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أسباب الهداية ، كما في قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {157} قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
= فإن عدم التصديق بخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو التشكيك فيما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب ضلال .
قال جل ذكره : ( إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
= اتِّباع الهوى ، قال سبحانه وتعالى لنبيِّه داود عليه الصلاة والسلام : (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ )
وحذّر الله عباده المؤمنين أن يكونوا كالذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، وبيّن تبارك وتعالى أن سبب زيغه وضلاله هو اتّباع الهوى ، فقال جل جلاله : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
فَحَذار « فكم تعرقل في فخّ الهوى جناح حازم ».
فهذا مركب الهوى قلّ من ركبه ثم تخلّى عنه ، لأنه يهوي بصاحبه كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه.
وقد حذّر الله تبارك وتعالى من الزيغ الذي هو نتيجةٌ لاتّباع الهوى ، فقال سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
قال ابن المبارك : إن البصراء لا يأمنون من أربع : ذنب قد مضى لا يَدري ما يَصنع فيه الرب عز وجل ، وعمر قد بقي لايدري ما فيه من الهلكة ، وفضل قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج ، وضلالة قد زُيِّنت يراها هدى ، وزيغ قلب ساعة ، فقد يُسلب المرء دينُه ولا يشعر .
ولقد حرص السلف على هداية الخلق إلى الصراط المستقيم ، لعلمهم بفضل هداية الخلق ، وقد أوصى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ أبي طالب حين بعثه يوم خيبر ، فقال له : فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم . متفق عليه .
ولو لزم الأمر أن يشتري الهداية بماله لما كان ذلك مُستكثراً .
ومما ورد في كتب التاريخ والتراجم أن سعيد بن عثمان بن عفان لما استعمله معاوية رضي الله عنه على خراسان فمضى سعيد بجنده في طريق فارس فلقيه بها مالك بن الريب - وكان شاعرا فاتكا لصا و هو من شعراء الإسـلام في أول أيام بني أمية - و كان من أجمل الناس وجها و أحسنهم ثيابا ، فلما رآه سعيد أعجبه ، و قال له :مالك و يحك ! تفسد نفسك بقطع الطريق ، وما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العبث و الفساد ، وفيك هذا الفضل ؟ قال : يدعوني إليه العجـز عن المعالي ومساواة ذوي المروءات ، و مكافأة الإخوان . قال سعيد : فإن أنا أغنيتك واستصحبتك ، أتكف عما كنت تفعل ؟ قال : أي و الله أيها الأمير أكف كفّاً لم يكف أحد أحسن منه . قال : فاستصحبه وأجرى له خمسمائة درهم في كل شهر
وهو الذي يقول :
ألم تَرَني بِعتُ الضلالة بالهدى وأصبحتُ في جيش ابن عفّان غازيا
فاحرص رعاك الله أن تكون مشعل هداية لبيتك ، فانقل ما تسمعه إلى زوجتك وبيتك .
و ليُعلم أن الهداية نعمة عُظيمة ، ومنَّةٌ جسيمة ، فلا تحصل إلا بفعل السباب ، وببذل الوسع في تحصيلها .
قال ابن القيم : إن لم يَصرف عنه الموانع والصوارف التي تمنع موجب الهداية وتصرفها لم ينتفع بالهداية ولم يتم مقصودها له ، فإن الحكم لا يكفي فيه وجود مقتضيه بل لا بد مع ذلك من عدم مانعه ومنافيه ، ومعلوم أن وساوس العبد وخواطرَه وشهواتِ الغيّ في قلبه كل منها مانعُ وصول أثر الهداية إليه ، فإن لم يصرفها الله عنه لم يهتد هدى تامّاً فحاجاته إلى هداية الله له مقرونة بأنفاسه وهي أعظم حاجة للعبد .
أخيراً – رعاك الله – استمع إلى هذه الآيات وتأمل قول الله : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ {54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ {56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )
فهو يقول : لو أن الله هداني ، وهو لم يأخذ بالأسباب الجالبة للهداية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( مجموع الفتاوى 19/ 99 ، 100 ) : وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العُجم ، فإن الحمار والجمل يميّـز بين الشعير والتراب ، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فـاعلهـا في معاشـه ومعـاده … ولولا الرسالـة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد ، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف مِنّة عليهم أن أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبيّن لهم الصراط المستقيم ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم بل أشر حالاً منها ، فَمَنْ قَبِلَ رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية ، ومن ردّها وخرج عنها فهو من شر البرية ، وأسوأ حالا من الكلب والخنزير والحيوان البهيم – ثم ذَكَرَ حديث أبي موسى المتقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم – فقال : فالحمد لله الذى أرسل الينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آيات الله ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفى ضلال مبين ، وقال اهل الجنة : ( وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ )
والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا مـا أشرقت عليه شمس الرسالة ، وأسس بنيانه عليها ، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم فاذا درست آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خرب الله العالم العلوى والسفلى وأقام القيامة وليست حاجة أهل الأرض الى الرسول كحاجتهم الى الشمس والقمر والرياح والمطر ولا كحاجة الانسان الى حياته ولا كحاجة العين الى ضوئها والجسم الى الطعام والشراب بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه فى أمره ونهيه وهم السفراء بينه وبين عباده . انتهى كلامه رحمه الله .
وإن تعجب فاعجب لمسلم يسأل ربَّه عز وجل في اليوم والليلة سبع عشرة مرة يسأله هداية الصراط المستقيم وأن يُعيذه من طُرق المغضوب عليهم وهم اليهود وطرق الضالين وهم النصارى ، ثم يتّبع طريقتهم ، ويسلك أثرهم ويتشبّه بهم